محمد آل الشيخ
يتساءل كثيرون: هل يُمكن أن تعود في المملكة ظاهرة الصحوة مرة أخرى؟.. الجواب بمنتهى الاختصار: مستحيل؛ السبب أن الصحوة انبثقت في ظروف سياسية واجتماعية محددة، جاءت بهذه الظاهرة، ولم تنزل إلينا قادمة من كوكب آخر، وانخدع بها كثيرون ظناً منهم أنها حل حضاري من شأنه أن يأخذ بأيدينا ليكون لنا مكان حضاري متميز تحت الشمس، غير أن الكثيرين إياهم اكتشفوا بعد التجربة بأنها خَلّفتنا أكثر، ونتج عنها أشكالاً سلبية خطيرة جعلتنا ننحط أكثر على جميع المستويات.
والسبب الفلسفي الرئيس لسقوط الصحوة يرتكز على أنها بغباء كبار أساطينها ودعاتها ومنظريها أصروا على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستوردوا من الماضي حلولاً لا يمكن أن تواكب الزمن، وما توصل إليه الإنسان من إنجازات حضارية وفلسفية؛ ولا يمكن أن يعود إليها، فما يصلح للأمس ليس بالضرورة أن يصلح اليوم، والذي يصر على هذه العودة باعتبار أنها عودة إلى مجد تليد لابد من إحيائه فهو كمن يصر على ركوب البغال والحمير والجمال ويترك ركوب السيارة والقطار والطائرة، أو كمن يقاتل بالسيف والرمح والنبال بحجة أن أسلافنا كانت هذه أسلحتهم. الصحوة كانت تمارس فكراً ومنطقاً وحلولاً بهذه الحجج؛ ربما أنها كانت تصلح لأسلافنا أما لحاضرنا ومستقبلنا فإنها ليست عديمة الفائدة فحسب، وإنما جعلتنا كمن يسابق السيارة ببعير أو حمار، وبالتالي فإن فوزنا في مضامير هذا السباق هو بالضرورة ضرب من ضروب المستحيل.
ولتقريب الفكرة التي أتحدث عنها هنا دعونا الآن نقرأ أهم ما كانت تدعو إليه الصحوة في أدبياتها.. فهم أولاً ضد أن تقود المرأة السيارة دون دليل من كتاب أو سنة.. وهم ضد عمل المرأة والاختلاط في العمل بين الجنسين، على اعتبار أن قرار المرأة في بيتها لا تبرحه مطلباً دينياً، رغم أنها كانت طوال العصور الإسلامية تعمل، وتشارك الرجل في كل نواحي الإنتاج الإنساني. وكانوا يقفون بعنف وشدة ضد الترفيه والغناء والطرب والمعازف، إضافة إلى أنهم يرفضون المسرح والسينما وكل مناشط الترفيه، مرة بأنها تُلهي عن العبادات، ومرة أن ثمة روايات مأثورة تقول بحرمتها. فحول الصحويون مجتمعاتنا إلى مجتمعات مغلقة غليظة فظة، تحارب الترفيه، بل والابتسامة.. وأنا ممن يؤمنون إيماناً عميقاً، وقد كتبت عن ذلك مراراً وتكراراً، أن مجتمعا بهذه الثقافة المتزمتة والمغلقة والمتقوقعة، وعدم التواصل مع ثقافات العالم، سيكون قطعاً بيئة مهيئة لإفراز الغلو والتطرف شرط الضرورة لإنتاج الإرهاب.
الآن عاد المتطرفون والغلاة والمتكلسون وصناع البغضاء والكراهية إلى المقاعد الخلفية، وأصبحت كثير من مطالباتهم مرفوضة لدى الكثيرين، خاصة الشباب غير المصابين بفيروس الصحوة وأصبحت بمثابة (الحقوق المكتسبة)، فالمرأة تقود سيارتها بنفسها وتعمل وتساهم في دخل الأسرة، كما أصبح لها شخصية (شبه) مستقلة، والمؤشرات تقول إن مزيداً من الاستقلال هو في الطريق. وأنا أزعم أن كثيرين ممن كانوا يصنفون (محافظين) وليس لهم طموحات سلطوية أو سياسية تراجعوا عن مواقفهم، وأصبحوا يميلون إلى الوسطية.
كما أن هناك فئة كبيرة من المواطنين اقتنعوا تمام الاقتناع بأن أولئك الذين كانوا يدعون إلى الصلاح من الأخونج والسروريين، هم أفاعي سامة تظهر في مظاهر الصلاح، وأن خطرهم على البلد كما هو خطر الفرس الصفويين، إذا لم يكونوا مجندين عملاء لهم، والإنسان، أي إنسان، إذا شعر أنه مهدد في وجوده، ينقلب تلقائياً إلى رجل آخر، وهذا ما لمسه السعوديون بالتحديد بعد مقتل خاشقجي، فقد أصبحت هذه القضية بمثابة قميص عثمان وأصابع نائلة لهؤلاء الأعداء، فتأكد لهم أنها خطة بُيتت بليل، وأن كيانهم الوطني مستهدف، والوسيلة التي أعدها هؤلاء الأعداء هي تلك الصحوة، وكذلك الصحويون الذي يظهرون ما لا يبطنون.
ومرة أخرى الصحوة انتهت ولن تعود، كما أن المملكة هي أقوى من أن تمرر تلك المخططات بسبب وعي شعبها الجديد.
إلى اللقاء،،،