إبراهيم عبدالله العمار
من المواضيع التي بدأت تنتشر المقارنة بين القراءة الرقمية وقراءة الكتاب المطبوع، فهل هناك فرق؟ لا تعتقد أن الاثنان يتشابهان، فالفرق هائل!
استخدام الإنترنت (حتى للقراءة) تجربة مختلفة تماماً عن القراءة من الورق كما يفيد الكاتب العلمي نيكولاس كار، وهذا ما يشعر به العقل نفسه، فالقراءة على الحاسب والجوال واللوح الرقمي تمتلئ بالتشتيتات كالروابط الموجودة في النص والدعايات وإشعارات الرسائل والكثير غير ذلك، ناهيك عن أن الوسط الرقمي نفسه يفرض على مخك أن يفكر في الرسائل الإلكترونية والمحادثات والأخبار، أما القراءة من الورق فانظر لأبحاث علمية حديثة عن التأثير المخي للقراءة العميقة والتي أظهرت تفوق قراءة المطبوع على الرقمي، فتضع عالمة مخ وصفًا ظريفًا وتقول إن القراءة العميقة ليست ممارسةً خاملة.. بل إن القارئ يصير الكتاب، يندمج معه. بعد ظهور الطباعة قبل مئات السنين توسعت حدود اللغة، وذلك ليحاول الكُتّاب التنافس على القراء الذين زادوا ثقافةً وإطلاعاً، وصار الكاتب يسعى أن يعبِّر عن أفكاره ومشاعره بطرق أوضح وأجمل وأذكى. مثلاً كلمات اللغة الإنجليزية التي كانت مقتصرة على بضعة آلاف توسعت إلى مليون كلمة لما انتشرت الكتب. الكثير من الكلمات الجديدة حوت معاني واسعة لم توجد من قبل. أخذ الكتاب يجربون في تركيب الجمل وفي الإنشاء، وفتحوا طرقًا جديدة للتفكير والتخيل، ومشى القراء في هذه الدروب.
مع توسع اللغة تَعمَّق الوعي، وهذا التعمق تجاوز الصفحة. يقول كار إن القراءة وكتابة الكتاب حسَّنت تجارب الناس مع الحياة والطبيعة، ويقول أحد العلماء إن براعة الأدباء الذين قدروا أن يحاكوا التذوق واللمس والشم والسمع وذلك فقط بالكلمات.. هذا تَطلَّب من الكتَّاب وعيًا وفهمًا عاليًا ومعاينةً قريبة للأمور الحسية، وهذا ما نقلوه للقارئ. الكاتب - مثل الرسام والموسيقار - استطاع أن يغيِّر الإدراك بطريقة أغنت إحساس القارئ بالمواقف والظروف بدلاً من أن تقللها.. طريقة زادت تعاطف وتفهُّم القارئ لأنواع مختلفة من البشر بشتى أنواعهم وألوانهم وظروفهم وتجاربهم. إن الكلمات في الكتاب لم تقوِّ قدرة الناس على التفكير في معاني الأمور فحسب.. بل أغنت تجاربهم مع العالم المحسوس، العالم خارج الكتاب.
هذه أشياء لن تشعر بها بالدرجة نفسها أو حتى إطلاقاً مع القراءة الرقمية التي تحث عقلك على التلفت بحثاً عن رسائل أو إشعارات أو إيميلات، بيئة أساسها التشتيت وتستنكر القراءة العميقة الهادئة التي تشجعك عليها الصفحات المطبوعة.