(مغارة الهول) رواية تاريخية للطبيب الأديب منصور الجابري صدرت عن دار العبيكان في سبع وعشرين وثلاثمائة صفحة في عام 1439 -2018 .
تدور أحداث الرواية في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام بحوالي قرن من الزمان في جنوب الجزيرة العربية، وتحديداً في (مأرب)، وتسلط الضوء على محاولة الفرس الاستيلاء على اليمن لمنافسة النفوذ الرومي المسيحي.
يمثّل الكاهن (كنانة بن مالك) الجانب الديني في حين يمثّل القيل (عدي بن عمرو) الجانب السياسي.. تبرم الناس من الكهانة ووصموها بالدجل، فانبري الكاهن وتلاميذه ومريدوه لإسكاتهم. في هذه الأثناء تسلّل للبلاد (بهرام) ممثلاً للفرس لإقناع الناس بالتخلي عن الكهانة من أجل بناءً دولة متقدمة، مخفياً الهدف الأبعد وهو إخضاع البلاد لفارس.
ينقسم الناس بين مُتَنبِّه للخطر الفارسي، ومحذِّر من الانسياق وراء دعوته المزيَّفة، وبين مرحب مؤمن بها مُتَبَنٍّ الدفاع عنها، وتنشب الحرب بين الفرق الثلاثة: القيل والكاهن وبهرام. ومع الانشغال بهذه الفتن يهجم الأحباش الذين كانوا يراقبون الموقف عن كثب لينفردوا بالسيادة، بعد أن عاثوا في الأرض فساداً، وأتلفوا الزرع وأهلكوا الضرع، وقوّضوا البنيان وأبادوا السكان.
بطل الرواية (وضّاح) الشاب الضعيف جسماً، المتوقد ذهنا سئم العمل مع والده وأخويه في تقطيع الحجارة وبيعها، فطلب من أبيه إسناد مهمة رعي الشياه له بحجة إراحة أمه منها. وضّاح مصاب بالتفكير والذهول، وقد أوقعه هذا السرحان في مصائب كبيرة؛ كان أولاها أن أضاع شويهات أبيه بعدما تولى رعيها، فغضب عليه لأنها مصدر الغذاء الوحيد لهذه الأسرة البائسة.. خرجت الأسرة ومعهم جيرانهم ليلا للبحث عن الأغنام، ولقي وضاح التعنيف من جيرانه لدرجة طرده ورميه بالحجارة حتى انتهى به المطاف إلى مغارة الهول، فتراجع مطاردوه خوفاً من المغارة التي شاع عند الناس أنها مسكونة بجن نبينا سليمان عليه السلام، ولم يخالجهم شك في أن الجن قد تخطّفت وضاحاً.
أما وضاح فهرب من المغارة متجها جنوبا إلى وادي (حريب) ليشتغل عاملا في مزرعة الإقطاعي (مُرَّة) أكبر المزارع في الوادي. يفرح مُرّة بوضاح لأنه سيعوّضه عن غياب ولديه (سيف) و(جبار)، ويفرح وضاح بالعمل في هذه المزرعة؛ لا سيما بعد أن تعرف على (لبنى) ابنة مرة، وتوثقت العلاقة بينهما لدرجة أن عرض أخواها عليه أن يتزوجها حتى لا يترك أباهم ومزرعته أبداً.
داهمت الوادي أمطار وسيول أتلفت المزرعة، وخشي مُرة على البئر، فطلب من وضاح أن يساعده على تنظيفها. نزل الشيخ للبئر ليملأ الدلو بالحجارة والطين في حين تولى وضاح مهمة سحب الدلو. استمر العمل على هذا المنوال ووضاح مستغرق في التفكير في حياته المستقبلية مع حبيبته لبنى حتى وقعت الكارثة، فأفلت منه الدلو وهوى على رأس الشيخ، وارتفع الصياح فجاءت لبنى لتمسك بتلابيبه متهمة إياه بقتل أبيها، ولم يكن لديه وقت للشرح والتبرير، فما كان منه إلا أن أطلق ساقيه للريح.
هام على وجهه مرة ثالثة مهموما لمقتل الشيخ، وللتهمة التي لصقت به، ولخسارته لبنى، ليتلقفه قاطعَا طريقٍ يعاملانه بمنتهى القسوة، فلا يحير جوابا من الخوف، فيظنان أنه أبكم، ويفضل أن يبقى أبكم على أن يتكلم فيدل على نفسه. بعد مشاورة بين المجرمين يتفقان على أخذه وبيعه لبهرام الفارسي الذي جاء تنفيذا لرغبة زعيم الفرس (قاباذ) في احتلال اليمن. بُكْم وضاح جعل بهرام يقربه منه ويتخذه حاجبه الخاص، فيكتشف وضاح ما يدور بين بهرام وضيوفه ومعاونيه، ويتعرف على أهداف حملته، كما يصل إلى سمعه أن سيفا وجبارا اللذين قَتَل أباهما يعملان مع بهرام في نجران، وأنهما سيقدمان عليه لتلقي تعليماته فيغمى عليه، وتنقذه هذه الإغماءة - كما أنقذه البُكم من قبل - إذ ظن بهرام أن وضاحاً غير قادر على أداء مهمة الحجابة لضعف جسمه فنقله إلى مهنة أدنى؛ وهي إطعام الكلاب، وفرح بهذه المهنة الحقيرة التي حفظت حياته!
وجوده مع الكلاب عزله عمّا يدور في القلعة من أحداث وزوار وخطط، ففوجئ صباح أحد الأيام بخلاء المكان من بهرام ورجاله.. حمد الله على خروجه سالماً من بهرام وقلعته، وقرر العودة إلى مأرب لعله يعيش بقية عمره مع والديه، بعد أن يغفرا له زلته، ويفاجأ حين وصوله إلى بلدته بوصول بهرام إليها، وبابن خالته زيدا وقد أصبح من وجهاء القوم ومن ملاك المواشي ومقربا من القيل عدي بن عمرو، ويعلم بوفاة والديه في وباء حل بالبلد قبل ثلاث سنوات.
يُقدِّم زيد وضاحا للقيل الذي كان في صراع مع الكاهن، فيكلف بمهمة التجسس على الكاهن. يقدم وضاح معلومات مفيدة عن الكاهن ومعاونيه ومصدر أمواله، كما يقدم معلومات مهمة عن بهرام ومشروعه الاستعماري. لكن الأحداث تنتهي إلى أمر غير متوقع؛ وهو استيلاء الأحباش على البلاد، وهزيمة كل من الفرس والكاهن والقيل..
على الغلاف الخلفي للرواية كتب المؤلف: «رواية من التاريخ ك تبت بلغة التاريخ»، غير أني لم أجد لغة تاريخية إلا إذا كان يعني بعض المفردات المعجمية التي شرحها في حواشي صفحات الرواية. هذه الألفاظ بعضها نادر الاستعمال مثل كلمة (سؤر) بمعنى البقية، وأكثرها واضح الدلالة مثل (الارام) و(النجائب) و(الجوى)..
لغة الرواية لغة أدبية راقية، تضمنت العديد من الصور الجميلة. يقول على لسان بطل الرواية وقد رأى قرص الشمس يوشك أن يغيب: «آه ما أجمل هذا الدرهم المذهب الذي لا يقدر الأغنياء أن يستأثروا به عن الفقراء، ولو استطاعوا أن يختطفوه من جو السماء لوضعوه في صناديقهم المغلقة، أو ابتنوا به حدائق غناء لا يدخلها إلا أمثالهم من الأثرياء». ص33-34
ويقول في تأمله لغزالة حاول أن يتقرب منها، ويستأنس بها: «ليتها تعلم ما في قلبه من خلجات الحب البريئة لجمال عينيها الواسعتين ولروعة جيدها الطويل ورونق لونها الصافي .... يا الله ما أقسى البشر وما أشد توحشهم! أيقتل كل هذا الجمال الآسر برمية سهم؟ أم تشوى تلك العين الساحرة بلهيب النار؟!». ص63
ويقول واصفا لبنى ابنة الشيخ: «وقد اكتسى قوامها المياس بحلة الشباب النضرة، ومنح الورد خديها الناعمين حمرة فاتنة تسبي القلوب وتأسر الأفئدة، بينما تتجلى الطفولة الغضة في ضحكاتها الجميلة ولهوها البريء». ص79
وعلى لسان لبنى وصف لغة الصمت :»إن للحب الصادق لغة خاصة يكون الكلام آخر حرف فيها وأضعف دلالة عليها. لقد كنت تتحدث بهذه اللغة كل يوم وأنت لا تشعر إذ كان صمتك بوحا ونظراتك قصائد غزل». ص97
الرواية تاريخية كما ذكر مؤلفها، وكما تدل عليه أحداثها، لكنها لا تخفي الإشارة إلى الدرس المستفاد منها، وكأن الروائي ينبهنا إلى أن مطامع الفرس في اليمن قديمة، وأساليبهم الملتوية واحدة، وكأنه استمدها من التاريخ الغابر لتكون رواية الحاضر!..
رفع عرب مأرب حين تبينت لهم خطط بهرام الفارسي الاستعمارية شعارا ليت أحفادهم اليوم يرفعونه: «مأرب لأهلها وجيش الفرس لن يحتلها»!
** **
- سعد الغريبي