د.عبدالله مناع
ليس غريبًا ولا جديدًا على (لبنان) العزيز.. هذه (الاستطالات) الزمنية في نيل استحقاقاته (الدستورية), وما يصحبها عادة من (فراغات) في قياداته الرئيسة الثلاث.. إن كان في انتخاباته الرئاسية (المارونية) أو في انتخاباته النيابية التي عُهدت رئاستها لأبناء المذهب (الشيعي).. أو في تشكيل الحكومات وتوزيع الحقائب الوزارية بين أعضائها وفق (كوتة) مذهبية محكمة.. لمن يُكَلَّف بتشكيلها من المذهب (السني)..
وكما حدث في السنوات القليلة الماضية، وما زال اللبنانيون والعرب جميعًا يذكرونه!
فعندما انتهت دورة الرئيس «ميشيل سليمان» الرئاسية (الأولى).. وأصرَّ على الاستقالة من منصبه.. معتذرًا عن (التمديد) له أو (التجديد) لدورة رئاسية دستورية ثانية يتيحها له «الدستور اللبناني».. ظل منصب الرئيس (شاغرًا) لـ(ثلاثين) شهرًا!! ولولا انسحاب قائد القوات اللبنانية: «سمير جعجع» من ترشيح نفسه للرئاسة.. وتأييده في المقابل لترشيح العماد «ميشيل عون».. من جانب، وتأييد كتلة «المستقبل» السنّية.. بمقاعدها النيابية - الثلاثة والثلاثين - من الجانب الآخر.. لما أمكن للانتخابات الرئاسية اللبنانية السابقة أن تُجرى، وأن تنجح.. وأن يصل معها العماد «ميشيل عون» في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر - 2016- لسدة الرئاسة اللبنانية في قصر «بعبدا».. ليقوم الرئيس «عون» برد الجميل.. وتكليف زعيم كتلة (المستقبل) سعد الحريري بـ (تشكيل الحكومة).. لينجز تشكيلهًا في وقت قياسي - على غير العادة -، وينعم معها لبنان واللبنانيون بعامين ونصف العام.. بـ(بحبوحة) خليجية و(ودعة) فرنسية!! إلى أن حُسم موضوع تعديل (قانون الانتخابات) النيابية.. بعد تسع سنوات من الجدل السياسي حول تعديله إلى أن تم تعديله وإقراره أخيرًا في العام الماضي - 2017م -، لتُجرى بعده أول انتخابات نيابية بعد صيام ديموقراطي نيابي امتد لتسع سنوات.. حيث كان يجري خلالها (التمديد) للنواب في المجلس النيابي كل أربع سنوات، لكن كتلة (المستقبل) لم تفز بعدد المقاعد التي كانت تتمتع بها في المجلس النيابي السابق، ولذلك فرض السؤال (القلق) نفسه: هل يعيد الرئيس عون تكليف رئيس وزرائه السابق سعد الحريري بتشكيل (الحكومة) ثانية.. رغم نتائج الانتخابات التي لم تأت وفق آمال وتطلعات كتلة (المستقبل) بعد تعديل القانون..؟ أم إنه سيعمد إلى تكليف أحد الزعامات السنّية الأخرى.. وفق «الدستور» وبنوده؟!
لكن الرئيس عون.. فضَّل (مصلحة) لبنان الحقيقية ورخاءه.. على الانتصار لـ (الدستور) وبنوده بعد أن وجد له فقهاء (الدساتير) أو ترزيته - كما يقول أشقاؤنا المصريون - مخرجًا دستوريًا لـ (تكليف) الرئيس سعد الحريري ثانية.. بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية رغم نتائج انتخابات مايو النيابية الماضية وتواضعها.. لكن تشكيل الحكومة اللبنانية السابقة الذي تم في غمضة عين.. لم يتكرر هذه المرة.. بل أخذ يتعثر تشكيلها الجديد:
بداية.. بسبب الخلافات حول حقائب المالية والخارجية والتربية.. ونهاية بـ(الخلافات) مع من سموا أنفسهم بـ(سنة 8 آذار) في إشارة إلى السياسيين الذين يتعاطفون مع تكتل الثامن من آذار.. ومطالبتهم في أن تكون لهم بعض الحقائب الوزارية.. لتمضي الأيام والأسابيع والشهور.. حتى بلغت سبعة أشهر دون أن يتم الإعلان عن (ولادتها)..؟!
لكن.. فجأة ومع بداية شهرنا الحالي (ديسمبر) أخذت تمتلئ أعمدة الصحف بأخبار (بيضاء) عن قرب تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.. بل وذكر بعضها أن الإعلان عنها سيكون خلال أيام؟!.. بينما حدد البعض الآخر يوم الجمعة - ما قبل الماضي - وقبل احتفالات أعياد الميلاد.. ليتم الإعلان فيه عن الحكومة الجديدة.. وإن (البيان الوزاري) الخاص بها قد أصبح مُعَدًا وجاهزًا لـ(تلاوته) فور الإعلان عن أسماء أعضائها!! ولم يحدث شيء من ذلك.. ليقول عضو (اللقاء التشاوري) لـ(سُنة 8 آذار) النائب «قاسم هاشم»..: (إن الأزمة الحالية أثبتت أن النظام اللبناني بحاجة إلى تطوير.. إلا أن المهم اليوم هو البحث عن خطوات سريعة لإنقاذ واقع الحكومة بشكل سريع)..؟! ليدخل تشكيلها مرة أخرى في متاهات الجدل السياسي والحزبي ومكايدات الكتل السياسية الفاعلة في ساحة العمل السياسي.. يصعب التنبؤ بـ (نهاياتها)..؟!
* * *
على أي حال.. كان الصراع على السلطة في لبنان: «رئاسة» و»حكومة»، الذي نشهد اليوم صورته في هذا (التعثر) الذي يواجه الرئيس المكلف: سعد الحريري في تشكيل حكومته الجديدة.. قديمًا، وقد بدأ مع نهاية حكم ثنائية (الخوري والصلح) الذهبية.. وربما بصورة أوضح وأعنف مع رئاسة الرئيس (كميل شمعون) في أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما أصرَّ على البقاء في (بعبدا) لدورة رئاسية (ثالثة).. مخالفة للدستور اللبناني!! فلم ينقذ لبنان - آنذاك- غير (رئاسة) العروبي الكبير اللواء فؤاد شهاب، وتكليفه لمن لا يقل عن عروبيته الزعيم السني (رشيد
كرامي) بـ (تشكيل) الحكومة.. لتمضي سنوات (شهاب/ كرامي) رخاءً وفق (المعادلة السياسية الماسية) التي بدأها مؤسسا لبنان الحديث (بشاره الخوري) و(رياض الصلح): (الدين لله والوطن للجميع)؟ إلى أن جاءت سبعينيات القرن الماضي بالحرب الأهلية اللبنانية التي أشعلها (الكتائبيون) بعد حادثة حافلة (أبو رمانه) الفلسطينية، والتي لم ينهها إلا (اتفاق الطائف) الذي هندسة المغفور له الملك فهد بن عبدالعزيز.. وأنصف فيه الأكثرية اللبنانية (المسلمة).. إلا أنه غيرَّ من طبيعة القوى الخارجية العربية التي تدعم الصراع على السلطة في لبنان: من قوى «قومية» تقابلها قوى «إسلامية».. إلى قوى مسيحية (مارونية) تقابلها قوى (إسلامية).. مع اعتراف الجميع، وتسليمهم بـ(مارونية) رئاسة الجمهورية.. و(سنية) رئاسة الحكومة.. و(شيعية) رئاسة المجلس النيابي، واستقرار هذه (التقسيمة)، واستمرارها.. من عشرينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا.. أو من عهد أول رؤساء جمهوريات لبنان المستقل (شارل دباس).. إلى رئاسة العماد «ميشيل عون».. إلا أن الخلل الأكبر في النظام السياسي اللبناني.. ربما يكمن في هذه الطائفية المذهبية، التي لم تقف عند حدود الـ(رئاسات) الثلاث.. بل امتدت إلى ما دون ذلك من المناصب والقيادات والإدارات الوطنية الأقل إن كانت في (النيابة العامة) أو (الأمن العام) أو (الجمارك) وغيرها.. ليجري توزيعها دينيًا ومذهبيًا بين (الموارنة) و(الكاثوليك) و(البروتستانت) مسيحيًا، وبين السنة والشيعة والدروز إسلاميًا..!؟
* * *
ولذلك.. ومع ضيق الشارع اللبناني - وهو شارع سياسي من الدرجة الأولى - من هذا التعثر في تشكيل حكومة سعد الحريري (الثانية)، الذي طوى شهره الثامن.. (في ظل الوضع الاقتصادي السيء جدًا) كما وصفه نائب كتلة المستقبل «نزيه نجم».. خرج المتظاهرون اللبنانيون لأول مرة إلى الشوارع و(ساحة الشهداء) في وسط بيروت وهم يطالبون بـ(إسقاط النظام الطائفي)، وقد ارتدى بعضهم (السترات الصفراء) في إشارة إلى تظاهرات (الشانزليزية) الاحتجاجية الفرنسية.. بينما طالب آخرون - من المتظاهرين- بسرعة تشكيل الحكومة، وهو الأمر الأكثر واقعية! والأقرب حدوثًا..
ليبقى السؤال.. العتيد: متى يتم الإعلان عن تشكيل هذه الحكومة.. ليستقر لبنان الجميل.. وينعم أهله بـ (بحبوحة) العيش في كنفها.. ؟!