رحم الله السيدة الفاضلة منيرة الفاضل (أم الغيثار)، فقد وهبها الله يداً شافية.
- هل كشفت على احتياجات السيارة قبل أن نتحرك.....؟
- الحمد لله الماء والزيت والكفرات تمام ...... أما الوقود ففي الطريق.
هذا ما دار بيني وبين صديقي فهد قبل أن ننطلق إلى الدمام لقضاء يومي نهاية الأسبوع هناك.
آب اللهاب ... شهر أغسطس ... وحاجتنا إلى البحر تدفعنا لاستغلال كل ساعة في هذين اليومين.. لذا مررت عليه بالمنزل في ساعة مبكرة من الصباح، وقبل أن نودع الرياض تزودنا من محطة الوقود بما نحتاج.
إلى الدمام الحبيبة... طريق لا معالم عليه... حتى النباتات الصحراوية قليلة ومتباعدة تحولت بفعل المناخ الحار إلى أكوام صغيرة من الأغصان الصفراء الجافة.... والأسفلت شريط أسود يمتد بعيداً صوب الأفق، يأخذك سريعاً للملل واستعجال الوصول، لذا زدت من سرعة السيارة على غير المعتاد مني.... فهد ينتقل بحديثه من طرفة إلى قصة وينشغل أحياناً بالراديو، جاهزية السيارة لهذه الرحلة جعلتني مطمئناً فلم أركز من (الطبلون) إلا على مؤشر السرعة فقط، أما ما يختص بعدادات الزيت والحرارة فكأنها لم توجد ........ سألني فهد:
- كم بقي من الطريق..؟
- لم نقطع من الطريق إلا أقل من ربعه ....
- الله يعين ...
ولتغيير الحديث للأفضل قلت:
- أنت تجيد السباحة؟
- عندي استعداد أن أسبح من الخبر إلى البحرين.
رأيته منتشياً وأردت كسر غروره فقلت:
- والربو....؟
- آه....هذه علتي الوحيدة ..... هو ما يمنعني من الاستمتاع كثيراً بالماء والرياضة عموماً
- الحمد لله أنه لا يؤثر على روحك المرحة.
قال مبتسماً:
- قل ما شاء الله
شعرت بحركة خفيفة في تغير سرعة السيارة وأنها تقل فنظرت إلى الطبلون وهالني أن مؤشر الحرارة بمنطقة اللون الأحمر في أعلى درجاته فصرخت:
- الحرارة....الحرارة..
- وقف السيارة ... وقف ... وقف
واختلطت أصواتنا وارتبكت حركاتنا فيما بدأت السرعة تخف تدريجياً حتى توقف المحرك وسارت السيارة بقوة الدفع الذاتي إلى أن ركنتها على أكتاف الطريق الترابية.
لم يتكلم فهد، حيث تركّزت عيوننا على مقدمة السيارة التي وقفت تماما ًوطلائع البخار تتصاعد من مقدمتها ... نزلت مسرعاً وفتحت غطاء (المكينة)، حيث البخار يتنفس بقوة من (الإديتر) ودون وعي وبحماسة الشباب وتهورهم أمسكت طرف شماغي وفتحت سدادة فتحة الإديتر فاندفع البخار الحارق قاذفاً السدادة في الهواء وحمم البركان على وجهي وذراعي فأغمضت عيني لا شعورياً وأطلقت صرخة حسبت أن قوة دفعها انطلقت من أصابع قدمي عابرة الأوردة والشرايين إلى حبالي الصوتية، فركضت - دون وعي - إلى الجهة الأخرى من الطريق غير مدرك لخطورته وكأني أحمل جمراً في وجهي.
كان آخر عهدي بنفسي وأنا أركض في الرمضاء وفهد خلفي يصرخ، ولم أفق إلا في المستشفى وحولي فهد واثنان من إخوتي وذراعي ورأسي ملفوفة بالشاش ولم يستثن منه إلا العيون والفم.
- الحمد لله على سلامتك.
تمتمت بصوت خافت:
- الحمد لله.
- الدكتور يقول إن بإمكانك الخروج الليلة على أن تراجع العيادات غداً ولعدة أيام.
لم تصدر مني ردة فعل، فأكمل أخي:
- سأذهب بعد قليل إلى مكتب شؤون المرضى لاستكمال أوراق الخروج.
- ماذا قال الدكتور بالضبط؟
تنحنح فهد ونظر إلى ذراعي وقال:
- لم يوضح من أي درجة الحروق لكنه ذكر أن حروق يدك بسيطة وستشفى منها سريعاً
وسكت برهة وأكمل:
- أما الوجه فقد تترك الحروق آثاراً عليه، وغداً في العيادة سيستبدل الشاش بآخر
غمغمت:
- آثار... أي تشوهات..
* * *
لم أجرؤ على النظر للمرآة التي كانت بيد الممرضة عندما أزالت الشاش أول مرة، كانت ابتسامتها ألمع من المرآة، وشاورتني إن كنت أريد النظر...؟ لكن قلقي من أن أرى ما أظن أنه قرص (هامبورجر) وفتحات عيني وأنفي محفورة فيه أعاد مرآتها إلى الطاولة الجانبية.
في البيت ...... مستلق على الفراش تحفني والدتي وأختي، لا أرى إشراقة في الأفق، أمي فقط ترى بوضوح غلالة الإحباط تلفني وتحاول رفعها.. مرت ثلاثة أيام وأنا أراجع عيادات المستشفى وكل ما فعلوه قص الشاش وترطيب الوجه بالمراهم وربط شاش جديد وكلمات مواساة جميلة تصب في مسمعي كالدبابيس... ماذا تفعل ابتسامة أو همسة جميلة أمام بوابة المجهول وجيوش الهواجيس والتوتر ...
يا إلهي كيف يتولّد القلق بداخل الإنسان وكيف له أن يصنع الإحباط ... حتى الآن لم أر وجهي...
سألتني أمي: إن كنت أريد أكلاً؟ وحاولت إغرائي فابتسمت:
- أعددت لك شوربة مثل شوربة رمضان إن لم تكن ألذ منها...
فهززت رأسي بالنفي
قالت أختي:
- يمدحون طب أم علي .... ما شاء الله يدها شاطرة وحافظة القرآن ... ومع كل علاج تقرأ ... وأشور عليك مراجعتها.
لاحظت عدم تقبلي لرأيها فأكملت:
- ميزتها أنها لا تخاطر فإن أدركت أن علاج حالتك ليس عندها اعتذرت، كما أنها لا تطلب ممن يراجعها إلا الدعاء.
لاحظت أمي إحباطي وعدم اهتمامي فقالت:
- اسمع كلام أختك.
صعوبة الكلام تمنعني من الأخذ والرد فحاولت إنهاء الحديث..
- يا ميمتي.... أنا أراجع مستشفى وأطباء ... وأختي تقول طب شعبي..!
تدخلت أختي:
- ليش ما تحاول ..... إن وافقت أم علي وكان علاجك عندها أبشر بالشفاء.
تذكرت كلمة (تشوهات) فانتصبت أمامي كشيطان، وتصورت أنها تخترق جمجمتي وتصطدم بجدارها الداخلي مرتدة إلى الجهة المقابلة بذبذبات صوتية تشكلت كدوائر داخل بعضها محدثة صوتاً معدنياً حاداً مزعجاً، تذكرت أيضاً الممرضة وقرص الهامبورجر المشوي ....كيف ستكون ردة فعلي ... هل سأحطم المرآة وأصرخ بكرهها .... تحول امتناعي تدريجياً إلى جدار قصير يمكن القفز فوقه، وقبل أن أبدي موافقتي قالت أختي:
- سأسرد لك قصة معروفة عن طبها، ولست أبالغ إن قلت أنها أنقذت ثدي فتاة من البتر.....
أصغيت باهتمام
- إن أماً راجعتها بابنتها البالغة أحد عشر عاما ًتشكو من انتفاخ الثدي الأيمن، وذكرت أنهم راجعوا بها المستشفى العام، وأفادهم الطبيب بوجود ورم، ولا بد من فتح الثدي وربما استئصاله، وأزعجهم ذلك، بل أخافهم، فأتوا بها إلى أم علي التي اكتشفت أن ما تعانيه البنت ليس ورماً، بل دملاً متورماً رأسه بالداخل، وهذا ما خدع الطبيب الذي لم يكلف نفسه بمزيد من الفحوصات، فعالجتها بأن أحضرت ثمرة نبات شري... الحنظل تعرفه..! وقسمتها نصفين أخذت أحدهما ووضعته على النار حتى تشرّبت الحرارة بداخله ثم ربطته بقطعة قماش على المكان المتورّم، وأوضحت للأم أن ألمها هو فقط ما تعانيه لحظتها ثم يخف وستنام ليلتها، وفي الغد أحضروها فظهر للدمل رأس، وقامت بفتحه فخرج صديد كثير، وبعد تجفيفه أشعلت رأس عود (رمث) وأطفئت اللهب وكوت به مكان الجرح وأسقتها (نقوع)، والحمدلله برئت البنت بعد عدة أيام وكأن شيئاً لم يُصبها.
ونظرت إلى عيني بعمق وأضافت وهي تهز رأسها:
- وتزوجت وأنجبت وأرضعت.
قالت أمي:
- ما يضرك لو ذهبت.... اذهب لأم علي وأنظر ما لديها ولا تقبل شيئاً لست مقتنعاً به، وإن احتجت المستشفى ستراجعه.
سقط التردد في طريق الأمل وأحسست براحة عجيبة.
- الله يرضى عليك يا ميمتي كلامك طيب.... أمري لله ... كيف لي أن أصل إليها...؟
ردت أختي بحماس وفرح:
- أنا بنت أبوي .... أترك الأمر لي.
* * *
لم أتوقع أن أختي بهذه الديناميكية والسرعة فصباح اليوم الثاني استقبلنا أنا وأختي أحد أبناء أم علي وبعد الترحيب قال:
- تفضلوا الوالدة بانتظاركم.
وأدخلنا مباشرة إلى الغرفة المخصصة للعلاج، أثاث بسيط، والإضاءة كافية وفي الزاوية (وجار) وموقد معدني وأواني نظيفة يغطي أغلبها السواد منها مقلاة حمراء بمقبض أسود ودولاب خشبي به أسياخ حديدية دقيقة وأعواد من أغصان أشجار قصيرة وأكياس مربوطة وعلب بلاستيكية ... وما هي إلا دقائق حتى دخلت أم علي بهيئتها المهيبة.
- السلام عليكم.
رددنا السلام فقالت:
- اجلس يا وليدي ..... ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، واضح إن لفة الشاش تؤلمك.
غمرني ارتياح عندما نطقت (وليدي) وداخلني شعور سعيد كما لو أن أمي هي من تخاطبني.
- وأحس أنها تخنقني أيضاً...
- سمعت ما حدث لك، والحمد لله على لطفه ... هل هناك ألم بالرأس..؟
- لا الألم كله بالوجه ... وهذا الشاش المزعج.
قالت وهي تتخذ مجلسها خلف الوجار:
- لا باس عليك... والله الشافي ويسهل كل أمر عسير، وعليه اتكلنا واعتمدنا ... لا تحمل هماً.
- الله يطمنك بما يسرك.
أمرت ابنها بإحضار تسع بيضات والتفتت إلى الدولاب وأخذت منه علبة اتضح أن بها حناء مطحون، فغرفت منها ثلاث ملاعق ووضعتها بإناء زجاجي وصبت عليه قليل من الماء وبدأت بخلطه حتى أصبح عجينة لينة أقرب إلى السائل وتركته بجانبها، ثم أشعلت الموقد وأخذت البيض وكسرته في إناء آخر وعزلت صفاره بمهارة ثم وضعته في المقلاة على الموقد وجعلت تحركه حتى احترق صفار البيض وأنتج زيتاً قليلاً فصفته بكأس صغير.
- الآن يا وليدي سأزيل الشاش عن وجهك بأن أبلّله بماء الحناء أولاً، ولا أطلب منك إلا أن تتحمّل الألم بصبر .... وكما قلت اصبر، وأود خلال ذلك أن تقرأ ما تحفظ من القرآن لأنه سيساعدك على تخطي الألم ..... هاه مستعد؟
- مستعد ونص.
- اتكلنا على الله.
اقتربت وهي تلهج بذكر الله وبيدها إناء الحناء الزجاجي وقطعة قطن غمرتها بالإناء ثم رطبت بها الشاش وغمرتها مرة أخرى وكررت العملية مرات حتى تشرب الشاش بماء الحناء ولامس وجهي فأحسست بحرارة شديدة لم أستطع معها إخفاء ما تسببه من ألم شديد فتأوهت تبعها آهات متتالية..
وهي تحثني على الصبر ...... لم تخف الحرارة، وسقر الذي لم أحسه إلا عندما فتحت سدادة الإديتر ها أنذا ألبس قناع منه.
أخذت أم علي مقصاً وقصت به الشاش من الجهة الخلفية لرأسي حتى وصلت إلى قمة الجمجمة وتأكدت أنه لم يبق منه رابط وبدأت بإزالته بسهولة ويسر.
- الحمد لله خلصنا يا وليدي من الصعب....
عاودني الارتياح على الرغم من الألم، وأردت أن أظهر لها معاناتي فقلت مازحاً:
- أنساني الألم أن أقرأ بعض الآيات.
فابتسمت وقالت:
- يمكنك أن تأخذ المرآة وترى وجهك.
- دخيلك .... لا..لا..لا
- الآن سأدهن الوجه بزيت صفار البيض وستخف -بإذن الله- حرارته.
تناولت عوداً قطنياً من أعواد تنظيف الأذن وغمسته بكأس الزيت ورطبت به بشرة الوجه خاصة الخدين وما تحت العينين المتضررة أكثر، واستمرت بعملها هذا أكثر من عشر دقائق حتى نفد الزيت فتبدل حال وجهي من البشرة الجافة المشدودة إلى الأفضل، وطلبت مني أن أتمدد لعدة دقائق ورأسي على وسادة وناظِريْ إلى السقف، ثم أحضرت ثلاثة أعواد قصيرة من أعواد الأثل وقالت:
- سأعمل لك (كبو) ...... سأشعل الأعواد حتى يتصاعد دخانها.
فأعتدلت في جلستي، ووضعت منشفة على رأسي تدلى طرفاها من الجانبين وأمالت برأسي إلى الأسفل وأدخلت الأعواد بدخانها بين طرفي المنشفة، فتصاعد الدخان مصطدماً بوجهي فشكَّل سحابة بيضاء شغلت كل المساحة التي بين طرفي المنشفة وداهمتني نوبة سعال، فسحبت الأعواد إلى الخارج لثوان ثم أعادتها، وأنا أقاوم سعالاً داخلياً بكتم أنفاسي مما شكَّل ضغطاً على أذني واعتقدت أن بياض عيني انقلبت أجزاء منه إلى اللون الأحمر، ثم سحبت الأعواد خارجاً مرة أخرى وأطفأتها بالوجار وأبقت رأسي على وضعه لدقائق حتى تلاشت السحابة البيضاء، وأمرتني برفع رأسي وإزالة المنشفة ... فحمدت الله، وقالت:
- بعدها سألف رأسك بالشاش على أن تأتي غداً في أي وقت يناسبك.
استمررت على هذا العلاج خمسة أيام لم تزل الشاش منه نهائياً إلا آخر يومين مع تشجيعها لي بأن أمسك المرآة، وبدا أن ترددي بدده ارتياحي النفسي من طريقة تعاملها ويسر علاجها، وأخيراً أمسكت المرآة بعد أن تلاشى التمنع كبخار الإديتر بالطريق.
شفيت ولله الحمد تماماً، عاد لي وجهي وعادت إلى بشرته نسبة كبيرة من نضارته السابقة، والجميل أنه لم تكن هناك آثار أو تشوهات واضحة ... كلما وقفت أمام المرآة دعوت لأم علي، الطريف أن صديقي فهد بعد شفائي قال لي سنذهب بسيارتك إلى (الهاف مون) بالشرقية ووافقت حينها على أن يفتح هو سدادة الإديتر.
** **
- عبدالرحمن الجريفاني
khazel@hotmail.com