د. عبدالحق عزوزي
ما زلنا نتحدث عن اليوم العالمي للغة العربية الذي عقد منذ أيام في مقر اليونسكو بباريس؛ وفي مقالتي العلمية التي نشرت في كتاب طبع خصيصًا لهاته المناسبة، تحدثت عن مسألة الشمولية التي تتجه إلى تراجع المطالبة بحق الهوية، فإذا كانت التوجهات نحو التجانس تستدعي بالمقابل دعوة خصوصية للمعنى الذي يضع القيم في قلب العمل الدولي، فلقد أضحى العالم أكثر تعقيدًا، كما يتجلى ذلك من خلال دراسة سوسيولوجية الأفراد المواطنين والمستهلكين للقيم والشعارات الذين يفرقون بين مختلف مصادر المعلومات والخطابات المتاحة. ويعرف هذا الإنتاج أزمة رباعية بوأت «الفرد المقتدر» في المقام الأول. فهي أزمة المعاصرة في البدء: حيث ينظر إلى العالم الجديد في غزة كما في كابول وفي بغداد كما في أبيدجان على أن جودة الحياة قد تدهورت، وأن الخطابات السلفية أو التي تحن إلى العصور الذهبية تجد في ذلك ضالتها. ثم إنها أزمة الاندماج، إذ تنتج الشمولية المهمشين على صعيد القارة بأسرها (القارة الإفريقية مثلا) والذين يزيدون من حدة الأزمة السالف ذكرها، وهناك كذلك أزمة الدولة التي فقدت الوسائل التي امتلكتها آنفا الدولة الراعية والحامية لتلبية متطلبات الضعفاء. وأخيرًا هناك أزمة تعميم النموذج الغربي الذي كان يتسم بقيم العقلانية والتقدم الذي نادى بتعميمه وبشر بفوزه جل المنظرين الغربيين بحيث يمكن تطبيقه على «دول العالم الثالث» التي عانت من مبدأ «الدول المستوردة» وأضحى اليوم موضع انتقاد.
وأنصح من أراد أن يتعمق في هذا الجانب أن يقرأ كتاب بيرتراند بدي وميشل فوشر، «نحو عالم وطني جديد»: فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب على رأس الولايات المتحدة، والعدوان الروسي على أوكرانيا، وشهية بكين في بحر الصين، والتوترات حول قضية المهاجرين، والإخفاقات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، والأخبار الدولية تهز النظام العالمي وتزعزع الدول القومية... فهل هذه التوترات السياسية المتعددة الأشكال دلالة على الانتقام الوطني؟ هل هناك إعادة تأكيد للحدود من جانب الدول كحصن حماية؟ أم أن ديناميات العولمة، على العكس من ذلك، تعني التآكل الحتمي للسيادة؟ هل نلاحظ «عودة الحدود» أو على العكس من ذلك «نهاية الأراضي»؟
هذا من جهة. ومن جهة أخرى غالبا ما يتناسى البعض دور النرجسية الثقافية في فهم بعض الظواهر في العلاقات الدولية، ولعل الرجوع إلى الكتاب الأخير الذي ألفه أيمانويل تود عن الأحداث الإرهابية التي عرفتها فرنسا أكبر معبر لذلك. والكتاب يصف بذكاء وبسوسيولوجية قل نظيرها، مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف...
ونحن نتحدث عن الهوية نعرف أن دولا مثل دول المغرب العربي تأذت وعانت من الحماية والاستعمار الفرنسي والإسباني. وأيا كانت التحاليل التي تتحدث عن العوامل والقابليات الداخلية في التمكين لعمليات الاختراق والتفكيك الخارجي الذي طبخته السياسات الاستعمارية عقب الحرب العالمية الأولى، فلا مناص من الإجماع على الدور الخارجي في إنجاز التقسيم والتجزئة وويلاتها المتعددة بما في ذلك الاختراق الثقافي. وأصل هذا التفسير مرده طبعًا إلى الهشاشة الداخلية للبنى الاجتماعية، وضعف النسيج الاندماجي في هياكلها.
كما نعلم قطعا أن الجيل الصاعد متشبع أكثر باللغة الإنجليزية، لدرايته بأنها لغة الحاضر والمستقبل، وأنه إذا كان على الطفل أن يتعلم لغة ثانية بعد اللغة العربية فهي اللغة الإنجليزية بدلا من اللغة الفرنسية، وهو ما نلحظه من خلال كثرة المدارس التي تختار اللغة الإنجليزية كلغة للتدريس في الدول الإفريقية وفي دول المغرب العربي، كما أنني أرى جل العائلات اليوم تفضل إرسال أبنائها إلى الجامعات الأنغلوساكسونية بدل الفرنكفونية منها، وهي ظاهرة أصبحت من المسلمات... وأخيرًا فإنه مما يحز في أنفسنا أن نرى الثقافة الإفريقية مثلا تعيش باستمرار مَخاض التجاذب بين عدة خيارات متقابلة، وداخل ثنائيات متنازعة، تجعل منها في بعض الأحيان ثقافات تلفيقية، عديمة الوحدة والتناسق، عاجزة عن الحسم في الانتماء لعصرها، متردّدة بين تنازع القيم. هذه الثنائيات التي سمّاها البعض (ازدواجية) حين قال: المشكل الذي يواجهنا وتعانيه ثقافتنا هو مشكل الازدواجية التي تطبع كلّ مرافق حياتنا المادية والفكرية، لا، بل المشكلة في الحقيقة هي ازدواجية موقفنا من هذه الازدواجية نفسها.