محمد آل الشيخ
لم تَعرف حضارة ظهرت على وجه الأرض بأنها حضارة لا تهتم بالفنون والموسيقى والطرب، بما فيها الحضارة الإسلامية، رغم أن هناك من الغلاة من يُحرم الطرب والسماع، إلا أن آخرين من فقهاء الإسلام المعتبرين، وأهمهم الإمام ابن حزم الأندلسي وكذلك الإمام أبوحامد الغزالي لا يريان بأساً في الموسيقى والطرب والسماع، وهناك كثير من الفقهاء الوسطيين المعاصرين يرى أن تحريمها بالجملة هو ضرب من ضروب الغلو والتطرف، ويؤكدون على القاعدة التي تقول إن قبيحها حرام وحَسَنُها مباح. وفي تقديري أن مسألة الغناء والموسيقى والسماع ستمر بنفس المراحل التي مرت بها قضية الصور، فمن في عمري يتذكر أن فقهاء المملكة في الماضي كانوا يحرمونها، ويعتبرونها سواء كانت رسماً يدوياً أو صورة فوتوغرافية محرمة قطعاً، ثم قبل البعض منهم الصور الفوتوغرافية، وعللوا إباحتهم بقياسها على انعكاس صورة المرء على المرآة، لكنهم أصروا على تحريم الرسم اليدوي لذوات الأرواح، و(تساهل) بعضهم في رسم ذات الأرواح إذا فصل الرأس عن بقية الجسد، وأخيراً سكتوا عنها، بل أجازها بعضهم. كان هذا في العقد الثامن من القرن الماضي، وعندما بزغت ظاهرة الصحوة القميئة عاد بعضهم إلى التحريم، وأصروا عليه.
ومن يقرأ تاريخ الحضارة الإسلامية، منذ عصر الرسول وحديث الجاريتين الشهير اللتين كانتا تغنيان عند أم المؤمنين عائشة، وإقرار الرسول بذلك الحدث، ثم عصر الراشدين، فعصر بني أمية الذي انتشر وتطور فيه الطرب والموسيقى في بيوت الخلفاء والخاصة، سيصل إلى حقيقة استنتاجية تقول: إن الغناء كان منتشراً، ومن تركه تركه تعففاً وزهداً، وليس لحرمته كما يزعم بعض الفقهاء المتأخرين. ومن يقرأ تاريخ الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد، الذي كان عابداً تقياً، يغزو عاماً ويحج آخر، كان مشهوراً عنه تعلقه بالطرب والغناء، هو ووزيره خالد البرمكي، وقصة أمة خالد البرمكي المغنية (دنانير) معروفة وشهيرة، وتطرق إليها كثير من المؤرخين، فبعد أن حصل مع وزيره البرمكي ما حصل، وقتله، ضم دنانير إلى إمائه، فامتثلت، لكن عندما طلبها أن تغني رفضت وفاء لمولاها السابق. كما أن الدكتور شوقي ضيف ألف كتاباً بعنوان (الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية) يثبت أن الغناء كان ثقافة اجتماعية منتشرة في تلك المدينتين إبان تلك الأزمان.
ولا يمكن لعاقل ناهيك عن محقق أن يترك تاريخ الطرب والموسيقى الذي كان منتشراً طوال تاريخ تلك الحضارة منذ بواكيرها، ويُغفل الشواهد المتعددة التي عرفتها كل حقب حضارة الإسلام، ثم يختزلها في أقوال بعض الفقهاء المتشددين والغلاة الذين اكتنفتهم الغلظة والفضاضة والجلافة وعدم رقة القلوب. يكفيك مقولة شائعة للإمام أبوحامد الغزالي، وهو الذي كان يُسمى (حجة الإسلام) نظراً لسعة أفقه وتبحره في العلوم الإسلامية، يقول رحمه الله: (من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج). وأنا أرى والواقع الذي نعيشه اليوم من انفتاح على الفن والغناء هو خير برهان على أن من أهم أسباب تراجع التطرف وبالتالي الإرهاب في بلادنا كان بسبب الانفتاح الثقافي والفني، فتلك (المفارخ) التي كانت تفرخ مشايخة التطرف والإرهاب لم يعودوا يتحكمون في ثقافتنا، ليتمكنوا من دفع الشباب إلى التطرف الذي هو قلعة الإرهاب الثقافية.
لهذا أقول وأكرر، أن ما نشهده في هذا العهد السلماني الزاهر أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإرهاب والغلو صنوان، وأن الانفتاح على ثقافات العالم الفنية والثقافية والفلسفية هو أهم علاج من شأنه أن يطهر الأوطان من فيروسات الإرهاب.
إلى اللقاء