د. خيرية السقاف
في صالة المطار جلس إلى جواري طفل نابه ذكي، لا أحسب أنه تجاوز العقد الثاني من عمره إلا بعام، أو اثنين، يتحدث بطلاقة، بيده كتاب قصص لا جهاز هاتف، ارتفع صوت الأذان، وانتهى فصليت على النبي عليه الصلاة والسلام، ووجدته قد أشرع في التهام صفحات كتابه، تطفَّلتُ عليه متسائلة لمَ لا يصلي على النبي بعد سماعه لخاتمة الأذان؟ فقال: لا ضرورة؟ فتماديت، عمَّا إذا كان لا يعنيه أن يحظى بشفاعته له يوم الحساب؟! فلم تكن لديه أية معلومة عن معنى «الشفاعة»، ثم سألته» ألا تحبه؟! قال: «عادي» شأنه شأن أي شخص؟! قلت له: أوَليس علينا أن نحبه أكثر من آبائنا وأمهاتنا؟ فرمقني بدهشة، وزمَّ طرفي شفتيه عجباً، وقال: «لا طبعاً، لا أحد أحبه أكثر من أمي وأبي»، فأخذت في شرح مقامه عليه الصلاة والسلام له، وأخبرته بأن إيماننا يرتبط بمحبته حين يكون مفهوماً لدينا ما الرسالة التي جاءنا بها، وما الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم من محبته، وطاعته، والاقتداء به، حينها انبرت أمه الجالسة أمامنا فقالت: هذه مسؤولية المدرسة التي يقضي فيها أولادنا جلَّ وقتهم، وما بعدها كل ساعاتهم في الدراسة، وربما يكون علينا نحن الباقي، بادر وسألني: «طيب أنا أحبه لكن كيف أحبه أكثر من أمي وأبي؟».... حديث طويل نشب بيننا حتى قطعه موعد التوجه للطائرة..
قال الطفل كثيراً آلمني، وحرض قلقي، وبعث أسفي.... فراغ.. فراغ.. ترى كيف ستكون الأجيال القادمة؟! وقد تكرر علي هذا الموقف مراراً مع غيره..
تذكرت حين كنا صغاراً، في جيلنا كنا في المدارس يعلموننا من خلال الدروس، والأمثلة ما جعله صلى الله عليه وسلم أحب البشر إلى قلوبنا، توقف معلماتنا الدرس وقت الأذان لنردده مع المؤذن، وتربط ذلك بالبركة التي سننال في يومنا، فعرفنا مكافآت الله لمن يصغى للأذان، ويتعلّق قلبه برفقته على الحوض، فلهجت ألسنتنا بسؤال الله بعده شفاعة هذا الحبيب، أخذونا للصلاة تطبيقاً حين وقتها، ودربونا على حسن الوضوء، وإتمام أركان الصلاة، حتى الدعاء دربونا عليه من خلال دروس الحديث، والقرآن، بل في واجبات الدروس التطبيقية، كان هدف المدرسة أن تزرع في قلوبنا العقيدة الصحيحة، وقوام الدين المتين، وعماد ذلك المعرفة الواسعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، تعليماً، وفي كل نشاط يربطونه بالاقتداء به، فعرفناه، وتلمسنا السبل لسيرته صلى الله عليه وسلم، فأصبح القدوة والمثل، بل المعتنى بالحب في القلب أولاً، ولم يكن ذلك على حساب بقية المقررات العلمية المختلفة في جميع المراحل..
في الطائرة ذهبت أتأمل ما الذي يتحقق في المدارس عن هذه الرسالة التربوية التعليمية؟ وفي المحاضن أيضا؟! وإلى أي مدى تعمل المؤسسة التعليمية في الشأن الرئيس وهو «دين» أبنائنا، وتحديداً في هذه المرحلة التي يقف الناس فيها على جانبي خط تناقض، أحدهما في جانب يقوم فيه المعتدلون بتصويب ما اختلط سابقاً في الشأن الديني من تعنت، وتشدد، أقصاه عن جادة يسره، والآخر في جانب كشفت فيه مسالك أناس عن وهن في الأساس الديني عند هؤلاء الذين كانوا قد أهملوه في تربيتهم، ولم يعبؤوا به في ممارساتهم، فالذين كانوا مغالين، غدوا متحلِّلين، أما الفئة التي في الوسط فمعتدلة من قبل، ومن بعد لكنها القلة التي نشأت في محاضنها قلوباً مليئة بالوعي، متينة في دينها، محبة لرسولها، على جادة يقينها..
ثم، وجدت أن من الأهمية مع تحديث مضامين التعليم، والإضافات الفاعلة فيه لمواكبة حاجات العنصر البشري في هذه المؤسسة ليؤهَّل للحياة بمعطياتها، وتطورها المتلاحق، أن يؤسس دين ناشئتنا، وعقيدتهم على صواب، وتمكن، فلا ما يمنع بالنهج المعتدل فكراً، وبالأسلوب المؤثِّر تطبيقاً، وبالمضمون الشامل تجذيراً أن يضاف إلى المقررات الجديدة في المنهج الدراسي المستحدث لمواد «التفكير والفلسفة»، و»اللغة الإنجليزية»، منهج آخر أساس هو منهج « سيرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام»، ولتكن ذات شمول يهدف إلى أركان القدوة، وما يتعلّق بها من الألف في معرفته وتعريفه لله، إلى الياء في جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام فكراً، وقلباً، ومسالك أخلاقه تعاملاً، وتطبيقاً، في الاتباع، وفي الامتناع امتثالاً..
إن التطور، والحداثة، والتجديد لا يتناقض تحقيقها، مع تحقيق التأسيس العقدي الصحيح لدى الناشئة، وقد أكد على ذلك الملك سلمان، وولي عهده - حفظهما الله- في كل مقال، ومكان.
وهي أيضاً مسؤولية المحاضن.. فكل من الوالدين، والمدرسة ومن فيها رعاة، وهم مسؤولون عن رعيتهم أمام الله تعالى بما تقضيه المسؤولية، ويطلبه الاعتدال، والوعي، وإدراك حاجة الوقت، وطبيعته، دون مغالاة، ولا تفريط..