د.خالد بن صالح المنيف
ذات يوم، كنت في عجلة من أمري - ودائمًا العجلة لا تأتي بخير- وإذا بي أتعثّر على الدّرج نزولًا، وكان سقوطًا عنيفًا مدوّيًا. تجمّع الأهل حولي ما بين مواس ومسهّل وعارض المساعدة، وكانت حالتي لا يعلمها إلّا الله من الألم، بالكاد وقفت على قدمي متجلّدًا، فطبعنا - معشر الرّجال - لا نريد أن نبدو في حالة ضعف، مهما كان الأمر صعبًا، حدّثتهم أنّ الأمر هيّن، وما كان والله كذلك! غادرتهم لمكتبتي أسامر أوجاعي، وأقفلت الباب، وبدأت الآلام تتعاظم، وخصوصًا في ساعد اليد اليسرى، لم أنم ليلتي، وكنت أحسبها كدمةً بسيطةً ستزول في الصّباح استيقظت مبكّرًا بعد ليل طويل، حيث إنّ لديّ دورةً تدريبيّةً في مدينة الدّمام، وصلت للمطار بوجع شديد، ولكنّ الأمل لازال باقيًا في أنّها لن تتجاوز الكدمة.
ذهبت للدّمام، وقدّمت الدّورة، وعدت من الغد ومعها تعاظم الألم، واستبدّ الوجع فأسرعت لأحد المستشفيات، وبعد الأشعّة تبيّن أنّه كسر شديد في عظم السّاعد؛ فقرّروا مباشرةً وضع جبيرة عليها، ومن وحي هذا المشهد خرجت بما يلي:
1- عندما يصيبك أمر، لا تتندّم، ولا تتحسّر، وتقول: «يا ليتني فعلت كذا»، أو «لم أفعل كذا!»، أو «يا ليتني بكّرت أو تأخّرت!». تعلّم من الموقف، ولكن لا تذهب نفسك حسرات؛ فهذا أمر مقدّر، ولا ينفع مع قدر حذر.
2- تأكّد أنّك ستخرج كاسبًا إن صبرت واحتسبت، فأنت لا تخرج من الأزمات كفافًا، بل بكمّ من الأجر والتّطهير، وهذا بحدّ ذاته مسلّيًا عظيمًا.
3- من قوانين الحياة؛ أنّ الألم لا يدوم، والوجع ينتهي، والغيم ينقشع، والشّدة تهون والهمّ يذهب، في عزّ أزمتك تسلّ بمبدأ: «وهذه أيضًا ستمرّ كما مرّ ما هو أصعب!
دائمًا تفاءل، وثق أنّ غدًا أجمل. يقول أحمد أمين: ليس المبتسمون للحياة أسعد حالًا لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالًا للمسؤوليّة، وأصلح لمواجهة الشّدائد، ومعالجة الصّعاب، والإتيان بعظائم الأمور الّتي تنفعهم وتنفع النّاس.
4- أنّ الله يهب الإنسان طاقةً وقدرةً على التّكيّف مع الوضع الجديد تدريجيًّا فمهما تغيّر عليك الوضع في البدايات، فغالبًا أنّك ستتكيّف إلى درجة كبيرة.
5- النّاس لا يقدّرون العافية ما داموا فيها، كالماء لا يقدّره إلّا فاقده، فهو كما قيل: أعزّ مفقود وأهون موجود. فمن رزق العافية الشّاملة فما سواها لعب في الحياة ولهو! أحيانًا لا تشعر بقيمة الشّيء إلّا مع فقده، ومن ثمّ؛ فقد أحسست بقيمة تلك اليد الّتي كنت وعلى مدار سنوات طوال أستفيد منها، وهذا يدعوني لمزيد من الشّكر على منح العزيز، سبحانه وتعالى.
6- من الأمور التي هوّنت عليّ، كمّ الرّسائل والتي وصلت والدعوات بالسّلامة ممّن حولي، والله أمدّتني بقوّة، بعد تثبيت الله وراحة نفسيّة ما لا أستطيع وصفه، تشعر أنّ هناك من يحبّك ويخاف عليك، قيمة الدّعم الاجتماعيّ جدًّا عالية، فلا تنس أن تسلّي المهمومين وتواسي المنكوبين.
7- من الأشياء التي تجعل الإنسان أقوى في مثل هذه المواقف هو تخيّل أنّ الأمر كان أشدّ؛ فكنت أحمد الله على أنّ الإصابة لم تكن في الظّهر أو في القدم أو في اليد اليمنى، بل إنّ هذه الطّريقة تجعلك تشعر بسعادة غامرة كما عند عبدالرّحمن شكري، عندما وصف السّعادة بقوله: «هي أن تنزلق قدمك فتقع فتُهشّم أنفك بدلًا من أن تُفقأ عيناك!»
8- وأخيرًا، تأمّلوا في حديث الأديب البشري عندما مرض: ما لكم يا أهل العافية لا تطربون ولا تمرحون ولا تطولون الجبال الشّامخة من تتايه ومراح؟ إنّه ليخيّل إليّ أنّكم تجاهدون في كظم أفراحكم أشدّ الجهاد! فلو خلعتم عليّ شيئًا ممّا تجدون من العافية؛ إذن لرأيتم أنّه لا يتّسع لمراحي كلّ ما بين الأرض والسّماء! الصّحّة، الصّحّة وحدها، ففيها عن كلّ عرض غناء. ما عزبت عن الإنسان نعمة من نعم الدّنيا إلا اقتصر حسّه على ألم فقدانها والحرمان منها، أمّا فقد الصّحّة فإنّه يشعر الحرمان من كلّ شيء؛ وقد صدق من قال: «يا أهل العافية لا تستقلّوا النّعم!».