منصور ماجد الذيابي
مما لا شك فيه أن الإنسان الذي انصهر في بيئة معينة بفعل مؤثرات ثقافية معينة، سيدرك أن للثقافة قوة مؤثرة تجعله يسير ضمن حدود شبكة ثقافية شديدة التعقيد، إلى الحد الذي سيضطر معه إلى التفاعل من خلالها، لكي يفي بمتطلبات الحياة من الناحية الزمانية والمكانية التي وجد نفسه مجبراً للقبول بها كجزء من مجتمع بشري يسير وإياه في دهاليز عملية تفاعلية مبرمجة ثقافياً في إطار جغرافي وتاريخي محدد. وانطلاقاً من هذا المبدأ الثقافي الذي يشبه إلى حد كبير حركة السيارات داخل شبكة من خطوط السير ومجموعة من قواعد السلامة الأمنية التي نجد أنفسنا ملتزمين بها تلقائياً بغية الوصول إلى الوجهة التي نقصدها، فإن الفرد هنا يكون مضطراً لاتباع سلسلة من الإجراءات داخل منظومة المجتمع الذي وجد نفسه جزءًا من أفراده وأحد المكونات الأساسية من ثقافته.
وكما يحدث مثلاً من مخالفات لقواعد تنظيم حركة النقل في إطار شبكة من الخطوط المتقاطعة والمسارات الفرعية، فإن الفرد ذاته يرتكب كذلك بعضاً من التجاوزات في محيطه الاجتماعي المبرمج على اتجاهات ثقافية تتفاعل معاً لتشكل له نمطاً ثقافياً ذا سمات وهوية متميزة داخل المنظومة الاجتماعية بأكملها.
ولتفسير هذه الظواهر الثقافية والمتغيرات في حياة المجتمعات فقد حاول علماء الاجتماع قديماً أن يضعوا تصورات عامة لتأسيس النظرية الاجتماعية في إطار مفهوم عملية تطور الأفكار، بحيث يكون من الممكن تقديم تفسير للأسباب التي تكمن خلف وقوع أحداث اجتماعية معينة وكيف وقعت. ومن أولئك المهتمين بتلك الظواهر علماء مثل Turner, Dahrendorf, Skidmore, Coser وكذلك عالم الاجتماع الأمريكي مولين Mullin الذي عرّف النظرية الاجتماعية بأنها النتاج الذي يسعى إلى تقديم تحليل علمي حول التفاعل الإنساني باستخدام مجموعة من المفاهيم والمتغيرات. وفي حين يرى مولين أن المشكلة المهمة التي يجب أن تركز عليها النظرية هي النزاعات التي تنشأ نتيجة للتفاعل في الوحدة الاجتماعية، يسلط علماء اجتماع آخرين الضوء على مشكلات أخرى مثل مشكلة الفرد، ومشكلة القيم، ومشكلة الوظيفة والسبب.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في بلورة النظرية الاجتماعية إلا أن بعض علماء الاجتماع يرون أنها لم تقدم سوى مجموعة هشة من الفرضيات الضمنية وعدد قليل من المفاهيم الرئيسية، وأنواع أخرى من البيانات والنماذج والتصاميم.
وفي تقديري أن النزاعات التي تنشأ داخل منظومة محددة لا تكون متعلقة بخلل في آلية تطبيق ثقافة هذه المنظومة الاجتماعية بقدر ما ينشأ النزاع كردة فعل على فرض سلوك معين قد يراه الفرد مقيداً لحريته في التنقل عبر مسارات رسمتها ظروف ومتغيرات حدثت في العالم وتأثرت بها منظومته الاجتماعية التي اضطرت لمجاراتها من أجل البقاء والتفاعل من خلال منظومات عمل اجتماعية أكبر. هذا التفاعل يمكن تشبيهه بتجمع أعداد هائلة من النحل حول خلية لإنتاج العسل. ولمزيد من الأمثلة التي تجعل الإنسان يتفكر ويتأمل ويحاول أن يقدم تفسيراً منطقياً لأسباب مشكلة أو نزاع فإنه يتبادر إلى الذهن على سبيل المثال بدايات حدوث التحول في تقييم السلع بأوراق نقدية ما جعلها تقف وراء وقوع الكثير من النزاعات التي نشهدها اليوم. ويعد هذا التحول أحد الأسباب التي تدفع بعض أفراد المجتمع إلى التجاوز على مبادئ ثقافية والقفز على حواجز وضعتها إدارة المنظومة لأجل تنظيم وضبط عملية التفاعل البشري من خلالها.
وبمجرد العودة إلى جذور التحولات الثقافية قبل ظهور النقد المعدني والورقي كما نعرفه في العصر الحاضر، سنجد أن عملية التبادل في البيع والشراء كانت تتم في عصور ما قبل الإسلام بواسطة المقايضة بأشياء عينية كأن يبتاع الرجل كمية من الدقيق بكمية أخرى من الأرز. ومنذ حدوث هذا التحول فقد نشأت أزمة اقتصادية عالمية وتأثرت اقتصادات دول كثيرة على خلفية هذه المتغيرات. لقد ساهمت التحولات الاقتصادية والسياسية عبر مر العصور في ظهور منتج ثقافي جديد أدى فيما بعد إلى نشوء نزاعات خطيرة هددت حياة البشرية على كوكب الأرض.
وقبل تلك الأزمة الاقتصادية بسنوات، تنبأ مؤلفا كتاب «يوم الحساب العظيم»، ويدعى أحدهما Jims وهو محلل اقتصادي أمريكي، والآخر Rice-Mogg وهو رئيس تحرير سابق لصحيفة التايمز البريطانية، تنبأ بهذه الأزمة المالية وحذراً من أوقات آتية ستكون أسوأ حتى من الحاضر حيث كشف الكاتبان عن أهوال مالية تشبه في خطرها الملحمة التي تسبق نهاية العالم والتي ستغرق الملايين في فقر مدقع وتعيد تشكيل المجتمع الغربي. كان الكاتبان يقومان بحملة لإنذار مدمني التسوق والاستهلاك في كل مكان بأن نهاية المجتمع الاستهلاكي قد اقتربت. وقد طالب الكاتبان -آنذاك- الناس بأن يلغوا بطاقات ائتمانهم ويصونوا مدخراتهم مبرهنين على ذلك بأن يوم الحساب آت ومن لا يحسن التهيؤ له سيفشل في الصراع عندما تضرب الأزمة.
بعث كتابهما في تلك الفترة شبح انهيار شديد خلال الأعوام التالية يبدأه عبء لا يحتمل من الديون الحكومية وديون الأفراد والشركات. كما توقع مؤلفا الكتاب أن تعاني أمريكا من أزمة دين عظيمة تبتلع اقتصاديات الدول الأخرى في الدوامة وتخرب النظام المالي العالمي، وأن النتيجة ستكون الحسد والجريمة وعنف العصابات. كان كتابهما عبارة عن مجموعة من التنبؤات التي تنطوي على غرضهما بأن يبددا الافتراضات الحالمة التي مفادها أن الغربيين محصنون بطريقة ما ضد الأزمات المالية. من المؤكد أن رسالة الكاتبان المعادية للاستهلاك وجدت -إبان تلك الحقبة- صدى في مجتمع ينفر من أيام الإسراف في الثمانينيات ولا يطمئن إلى القوة المدمرة للدين.
ما أود الوصول إليه من خلال هذه المؤشرات والمعطيات هو أن الفرد في مجتمعه يتفاعل مع نواحي الحياة المختلفة وفقاً لما تمليه عليه ثقافة النظم الاجتماعية والاقتصادية المتوارثة جيلاً بعد جيل. ولذلك فإنه لا يكون مخيراً وإنما يكون مسيراً ضمن قوالب وخلايا ومسارات دقيقة فرضت عليه التحرك والتفاعل بما لا يرغب وبما لا يتوقع أحياناً. هذه الضغوط لجوانب الثقافة المختلفة وإرهاصات التحول والتغيير جعلت من الإنسان ينفر أحياناًَ ويحاول التحايل للخروج من دائرة النظم الحياتية ليسلك معابر وممرات جانبية يرى أنها تتفق مع فطرته التي تتيح له التحرك والتفاعل بحرية تامة بعيداً عن مجال القيود الصارمة لنظم الحياة العامة. ومما لا شك فيه أن تلك النظم التي ظهرت في عصر الطفرة الاقتصادية لم تكن إيجابية في كل أحوالها، لاسيما وأنها ساهمت في إنتاج وتعزيز مفهوم الطبقية الاجتماعية ذات الفوارق الكبيرة بين الأثرياء ومنخفضي ومتوسطي الدخل.
كنت أتحدث -مؤخراً- إلى بعض الصبية الصغار من فئة الدخل المنخفض جداً، وقد أعطوا إجابات ذكية لأسئلتي. كان من الواضح أنهم فكروا كثيراً في مثل هذه الأمور. قال أحدهم أريد أن أدرس قدر ما أستطيع لأنني لاحظت خلال السنين مدى شدة كدح والدي ليكسبا راتباً ضئيلاً تافهاً. وقال لو أنهما تعلما لوجدا أعمالاً أفضل ذات راتب أعلى ولما كانت حياتنا شاقة إلى هذه الدرجة. وقال فتى آخر: أريد أن أضمن أن حياتي وحياة أبنائي لن تكون كذلك.
تعكس هذه الإجابات مدى تأثير الثقافة على الفرد من خلال التركيز على صيغة التفضيل في إجاباتهم. لقد أفرزت التحولات الثقافية «طبقية» اجتماعية أثقلت كاهل الإنسان، فجعلت منه متمرداً على الثقافة المضافة التي لم تتجذر بعد في أعماق فكره وتاريخه الثقافي. فهل يمكن في زماننا هذا، وفي ظل المتغيرات الثقافية المتسارعة، أن نفكر في إعادة تشكيل السمات الجديدة لثقافتنا مع الإبقاء على الموروث الثقافي دون أن يتأثر بتداعيات عملية إعادة البرمجة الثقافية؟