د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أهدى لي عزيز كتيباً بعنوان: «بين أبي العلاء المعري وداعي الدعاة»، وهو كتاب يزيد بقليل عن المائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط. لم أجد في الكتاب ما يتفق مع ما تميل له نفسي قراءة أو تأليفاً، لكن حتى الكتب التي قد لا تناسب منهج المرء، قد لا تخلو من فائدة.
الكتاب فيه فلسفة وتقعير، واختيار مفردات غير مألوفة إلى حد كبير، واستشهاد بأبيات شعر تحتاج إلى المزيد من التعمق والتفكير، والحقيقة أن بعض الفلسفة التي لا أحسن فنها، قد تخرج الإنسان من المألوف، وبعضها قد يمهد الطريق للإبداع والتأثير في السلوك البشري، والتعايش الاجتماعي والدولي، وهي بما فيها من عمق قد تصنع مجتمعات ذات مناهج أخلاقية راقية.
والمعري، أخذ أقطاب هذا الفن، وقد روى ظمأه منه بقراءة كتب وردت إلى المعرة وبغداد من أماكن مثل الهند واليونان محمولة على سطوح السفن، وظهور الجمال، وقد أصيب المعري بالجدري في طفولته، ففقد بصره، وعوضه الله ببصيرة ثاقبة، ونفس في العلم راغبة، فخاض في بحور الفلسفة والأدب والشعر، فترك إرثاً مفيداً، خطه لنا الخطاطون، وحفظه لنا الوراقون، وقد سافر إلى بغداد، وهو في نحو ثلاثين من عمره، ويبدو أنه لم ينل بغيته هناك فعاد أدراجه إلى المعرة، وأصبح حبيس الدارين البيت والظلام، فلم يسمح لشباب عصره أن يتتلمذوا على يده، وبقي مع خادم له يعطيه جل ما يرد إليه من مال، ويكتفي هو بما يسد رمقه من مأكل ومشرب، وقد امتنع عن أكل اللحوم والسمك، والبيض، والعسل، وشرب اللبن، وله في ذلك فلسفة عابه عليها أهل زمانه، وكان هذا الموضوع لب الجدل بينه وبين داعي الدعاة الذي حفظت لنا في رسائل كان نصيب داعي الدعاة منها ثلاث، ونصيب المعري منها اثنتان، حيث توفي بعد أن وصلته الثالثة، فلم يتمكن من الرد عليها.
وداعي الدعاة منصب في العصر الفاطمي، يلي قاضي القضاة، وهو منصب مرموق يتقلده من يثق فيه الحاكم الفاطمي لينشر الدعوة الفاطمية، بطريقة سرية خفية، ظاهرها مذهبي، وغايتها سياسة، وأساسها الولاء، للأئمة والأولياء، دون تبصر أو تساؤل.
وداعي الدعاة الذي راسل المعري، اسمه هبة الله السلماني نسبة إلى سلمان الفارسي، وكان متأثراً بالفلسفة الفارسية، وله شعر يخلو من الطراوة، ففيه جفاف، وتكلف، وحديث كثير عن الذات، وغايته القيام بمهمته وتبليغ رسالته، وجلب الناس إلى مذهبه.
وشعره يخلو من الوجدان ، ونفسه تمر بأطوار من انكفاء على الذات إلى الزهد والبعد عن الدنيا. يبدو أنه أراد أن يسير غور المعري، لا سيما أن أهل المعرة وغيرهم يتهمون المعري بميله إلى المذهب الفاطمي، وهناك من انتحل عليه شعراً، ووصفه بالزندقة، وهو لم يقل ذلك لكنه يرى آراء تختلف عن أهل زمانه، وألزم نفسه ما لا يلزم حتى في شعر ديوانه، الذي سماه لزوم ما لا يلزم.
وبعد جدل بيزنطي، بين الرجلين، مع احترام بين الجانبين، اقتبست قولاً لداعي الدعاة يتناقض مع ما هو يبيته ويعمل لأجله فهو الذي يقول: «وشاهدت الناس بين رجلين، إما منتحلاً لشريعة صباً بها، ولهج بها إلى الحد الذي إذا قيل له من إخبار بشرعه، أن فيلاً طار، أو جملاً باض، لما قابله إلاّ بالقبول والتصديق.... أو منتحلاً للعقل يقول إنه حجة الله على عباده».. انتهى قوله؛ ولن أخوض فيما استرسل به، حيث أجد الفائدة منه قليلة، والحقيقة أن داعي الدعاة لم يقتنع بردود المعري، لهذا نجد في رسالته الأخيرة «إن المعلوم من صلابته في زهده بحمية من الظن والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سراً، قد أسدل عليه من الثقبة ستراً، أو أمراً تميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضاً...»؛ واستشهد ببيت ليس من المستحسن إيراده، والحقيقة أن الحق أبلج، والدين أوضح من ضوء الشمس، لا يحتاج إلى فلسفة وتقية، أو تكفير أو تنفير.
تذكرت إسحاق نيوتن والذي قادته فلسفته وتدينه إلى أن يتساءل عن سر سقوط التفاحة، ويصل إلى قوانين الجاذبية، وإلى مندل في كنيسته وتدينه وفلسفته حتى وصل إلى قوانين الوراثة، وبين الفلسفات التي قد لا تؤدي إلى شيء مفيد، وقد تخرج المرء من الحقيقة إلى التيه.