عماد المديفر
يرى جان ميلسن Jan Melissen بأن الدبلوماسية الشعبية - أو الدبلوماسية العامة كما يترجمها البعض حرفياً من المصطلح الإنجليزي الأساس (Public Diplomacy )- هي كممارسة قديمة جداً قدم التاريخ إلا أن المصطلح بحد ذاته جديد، وقد عبر عن ذلك بجملة معبرة في مقدمة كتابه (الدبلوماسية الشعبية الجديدة: القوة الناعمة في العلاقات الدولية)، حيث قال: «It is tempting to see public diplomacy as old wine in new bottles» وهو ما ذهب إليه مركز الولايات المتحدة الأمريكية للدبلوماسية الشعبية بأن حقل الدراسات الدبلوماسية الشعبية يعد حقلاً حديثاً جداً، ولذلك فلا يوجد تعريف واحد متفق عليه بين الباحثين، إذ للدبلوماسية الشعبية تعريفات عديدة، وكباحث في هذا المجال، أرى بأن الدبلوماسية الشعبية ما هي إلا إستراتيجية عمل مستمرة ومدروسة في عملية التواصل مع الشعوب الأجنبية، بتنوّعها، أخذاً بالاعتبار اختلاف مشاربها وثقافاتها وقيمها واهتماماتها، وذلك بهدف بناء حوار تفاعلي فعَّال ثنائي الاتجاه، يخدم صانع القرار في فهم هذه الشعوب، كما يخدمه في فهم الشعوب لسياسات بلده وقراراتها وتحركاتها على الساحة الدولية، ويسعى من خلالها للظفر بقلوبهم وعقولهم وصولاً إلى تحقيق الغاية المرجوة.
فالدبلوماسية الشعبية (أو العامة) نشاط علني موجه، تقوم به الدولة سعياً إلى تعزيز المصالح الوطنية لها، من خلال الإعلام، للتأثير على الجماهير الأجنبية، وبالتالي فإنها من الناحية النظرية شكل من أشكال النفوذ الدولي العابر للحدود، بحيث تستهدف حكومة الدولة (س) محاولة التأثير الإيجابي على معتقدات شعب الدولة (ص) بعمومها، مستخدمة نطاق واسع من الوسائل الإعلامية المتاحة، وتأتي برامج التبادل العلمي والأكاديمي بين المواطنين (citizen-exchange programs)، وكذا تبادل المعلومات، والزيارات الرفيعة التي يقوم بها كبار المسؤولين والقادة بين الدول وما يرافقها من فعاليات إعلامية مصاحبة، تعتبر جميعها من أبرز تلك الوسائل.
وبالتالي فالدبلوماسية الشعبية تشمل كافة الطرق التي تتبعها دولة في محاولة الوصول للمواطنين من المجتمعات الأخرى وجذبهم والتأثير الإيجابي في رؤاهم واتجاهاتهم، وأن الحوار هو أساس هذه العملية وأداتها لتحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، إذ تعتمد عمليات وتطبيقات الدبلوماسية الشعبية على ثلاث مرتكزات أساسية:
1. المصداقية والإقناع: في عرض قيم ورؤى وصوت الدولة المعنية، للعالم بالطرق التي تتلاءم مع الشعوب وثقافاتهم.
2 . الحوار والإنصات الجيد: يكمنان في قلب العملية الدبلوماسية الشعبية.
3 . المشاركة النشطة الموازية من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية: وهو مطلب ضروري لدعم المصداقية، كمشاركة وسائل الإعلام، والأدباء، والفنانين، ورجال الأعمال، والمنظمات الخيرية غير الربحية، والأفراد.
وكون الحوار المتوازن هو أُس الدبلوماسية الشعبية، فهي إذن وسيلة مهمة لتعزيز المشورة والحكم الرشيد والأمن، والاستقرار الاقتصادي في جميع أنحاء العالم. وقد تصدرت الدبلوماسية الشعبية المواضيع المثيرة للجدل في حقل الاتصال الدولي منذ بروز نظرية الإمبريالية الثقافية، والدعوة لنظام عالمي جديد للإعلام (العولمة)، منذ السبعينات والثمانينات الميلادية من القرن الماضي. كما برزت حديثاً وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تركّزت النقاشات وتمحورت حول التساؤل الشهير «لماذا يكرهوننا لهذا الحد؟»، في محاولة لفهم التيار العارم في الشرق الأوسط المعادي للأمركة أو ما يُسمى بـ «Anti-Americanism»، وفي خضم الحرب العالمية ضد الإرهاب، من خلال حرب طويلة لكسب القلوب والعقول، والتي لا يمكن كسبها إلا من خلال «حرب المعلومات» وليس الحرب العسكرية. وهي الفلسفة التي توصل إليها جوزيف ناي في التسعينات الميلادية تحت ما أطلق عليه مصطلح «القوة الناعمة» والتي تقول «إن يعرفونا يعني أنهم سيحبوننا»، وبالتالي فإن المهم هو اتباع إستراتيجية الاتصال المعنية بالشرح للطرف الآخر وبوضوح عن طبيعتك وما هيتك ومن أنت وكيف تعيش أكثر من السعي لأن تقول للآخرين أو تجعلهم يبدون مشابهين لك أومقلّدين. مع الأخذ بالاعتبار أن أقوى أنواع الاتصال تأثيراً هو الاتصال الشخصي وجهاً لوجه، ولكن أيضاً حتى هذا النوع من الاتصال يبدو خطيراً ويمكن أن يساء التعامل معه إذا كان هذا «الوجه» أو «المرسل» شخصية كريهة بصفات قبيحة أو مزعجة، وبالتالي ستصبح وجهاً سيئاً ينعكس أثره سلباً على هذه العملية برمتها.. هذه المقالة؛ مدخل مهم لمقالتي القادمة حول «القوة الناعمة» ونماذجها السعودية، وكيفية توظيفنا لها في العمل الدبلوماسي الشعبي.
إلى اللقاء.