د. فوزية البكر
يؤكِّد تقرير استشراف المستقبل الذي تصدره أكاديمية دبي للمستقبل كل بضع سنين بأن (مجتمعاتنا لا تتوقف عن التغيّر ولا نتوقف نحن عن التعلّم لذا يجب على أنظمتنا التعليمية أن تدمج في مناهجها أفكاراً وتقنيات جديدة، كي نتمكَّن من تطوير طرق إبداعية لتشجيع الأجيال الجديدة على حب العلم)، وهذا هو فعلاً التحدي الحقيقي الذي يواجه الأنظمة التعليمية خاصة في الدول التي تحاول النمو مثلنا.
لكن كيف سنتعلّم بطرق مختلفة إذا كان معلِّمونا أنفسهم لم يتعلَّموا بطرق مبتكرة؟
قبل ثلاثين عاماً ومن خلال الأبحاث في ردود أفعال الطلاب على الفشل لاحظت أستاذة أبحاث الدماغ والتعلّم في جامعة ستانفورد كارول ديوك اختلاف الطلاب في رد فعلهم على الفشل، إذ رأى بعض الطلبة أن ذلك شكَّل تحدياً يستحق المزيد من التعلّم في حين انهار طلاب آخرون لأبسط فشل يواجههم، ومن خلال تلك الأبحاث والملاحظات على الآلاف من الطلاب ابتكرت د. ديوك ما عُرف لاحقاً بمصطلح: المعتقدات الذهنية الثابتة (فيكسد مايند ست) ومصطلح آخر هو: العقل القابل للنمو (جروث مايند سيت) لوصف الاختلاف في المعتقدات الخفية التي يؤمن بها الناس حول الذكاء والتعلّم والتي تحدِّد ردود أفعالهم حول الفشل، فحينما يؤمن الطلبة أن مزيداً من الجهد سيجعلهم أكثر ذكاءً فإنهم يبذلون جهداً أكبر بما يساعد على ارتفاع مستويات تحصيلهم الدراسية.
لاحقاً أظهرت الكثير من الأبحاث لدراسات دماغ الإنسان أنه أكثر مرونة مما اعتدنا أن نؤمن به، إذ تبيَّن كيف يمكن للتدريبات والتجارب والممارسة أن تغيِّر من التوصيلات بين الخلايا العصبية في الدماغ، حيث تقوم الشبكات العصبية ومن خلال تدريبات جديدة نتيحها لطلابنا بتنمية علاقات جديدة داخل الدماغ وتقوية الروابط الموجودة وذلك عبر استخدام طرق مختلفة للتدريس تعتمد إستراتيجيات متعدِّدة مثل طرح الأسئلة وقبول الاختلاف وممارسة الاكتشاف وطرق ثناء تركز على أسلوب التعلّم ولا تعطي أحكاماً عامة مثل أن الطالب ذكي أو شاطر ... إلخ، بل كيف استخدم طريقة ما للتوصل لحل مسألة رياضية بطريقة مختلفة، وطبعاً يكون ذلك مشفوعاً بعادات صحية في الأكل والنوم بما قد يساعد في جعل الطلاب أكثر ذكاءً بالفعل.
ماذا تقول لنا اكتشافات الدراسات في أبحاث الدماغ والتعلّم؟ إننا إذا اعتقدنا بأن أدمغتنا يمكن أن تنمو فسنتصرف بشكل مختلف لذا بدأ العلماء السلوكيون يبحثون في الطرق التي يمكن من خلالها تغيير معتقدات الطلاب من اعتقادهم بثبات ذكائهم إلى القناعة بإمكانية زيادته بما يؤدي إلى التحفيز والاجتهاد وتحقيق نتائج دراسية متفوِّقة. فكيف يمكن للمعلِّم أن يحقق ذلك؟
أظهرت الدراسات أنواعاً مختلفة من المديح والثناء أن مجرد مدح الأطفال بالقول عنهم إنهم أذكياء يشجع للأسف على تكوين ما يُسمى بالعقلية الثابتة، في حين أن المديح للعمل الجاد والتركيز على الإستراتيجيات المتبعة في القيام بعمل ما يكون عقلية نامية قابلة لمواجهة التحديات التي لا يحبطون بسببها، بل يتعلّمون منها مما يزيد من قدراتهم ويرفع من إنجازهم.
كيف ننقل هذه الممارسات البحثية من المعمل إلى الفصل الدراسي؟ تمت إحدى هذه الدراسات في مدرسة فيسكي الابتدائية في الولايات المتحدة، حيث بدأ الباحثون أولاً بنشر ثقافة العقل القابل للنمو بين المعلّمين أنفسهم لتغيير معتقداتهم فشارك المعلّمون في دراسة كتاب (مايند سيت: العقلية) خلال تنفيذ ممارساتهم لعقلية نامية مع طلابهم مما حقق للمدرسة نتائج باهرة وخاصة في الرياضيات مقارنة مع مداس أخرى في نفس المحيط. وقد أرجع الباحثون ذلك إلى عقليات المعلّمين التي تغيّرت إلى عقليات نامية وإلى تغيّر ثقافة المدرسة ككل.
إذن من المهم عند طرح برامج التغيير مثل إدخال مناهج جديدة بمفاهيم جديدة البدء بالمعلّمين أولاً وتغيير عقلياتهم حول التغيير ومحاولة تحدي قناعاتهم الثابتة حول مختلف القضايا: أي نشر ثقافة جديدة داخل مدارسهم تساعدهم على تبني التغييرات الجديدة وتعليمها لطلابهم.
أعتقد أننا نستطيع ذلك؛ فوزارة التعليم في بلادنا اليوم تشن حملة تغيير غير مسبوقة تحاول فيها تغيير وجه وقلب وقالب تعليمنا، ومن المهم أن نركِّز على قناعات المعلِّمين وعاداتهم العقلية وما يؤمنون به حول مفاهيم التعلّم. حين نغيِّر المعلِّم سنغيِّر المدرسة.