فُجعنا جميعًا بتلقي نبأ وفاة صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز، عليه رحمة الله، وأسكنه فسيح جناته. والعزاء موصول لخادم الحرمين الشريفين مولاي الملك سلمان بن عبد العزيز, وسيدي سمو ولي العهد، ولأبناء الفقيد رحمه الله، وكافة الأسرة المالكة. وللأمير طلال مكانة خاصة عندنا نحن أبناء المرحوم عبدالرحمن بن سليمان الرويشد, فقد كان يشارك الوالد الاهتمام بمجال الطفولة والتأريخ.. فلا ينسى الجيل السابق جائزة الأمير طلال التي كانت توزع على قراء مجلة الشبل للأطفال التي أسسها والدي - رحمه الله- وكان الأمير طلال يتبرع بجائزة مالية سنوية لأعوام طويلة.. وكذلك كان مهتمًا بالتاريخ المحلي ويشارك والدي هذا الاهتمام، فيثني على مقالاته واهتمامه بالدفاع عن تاريخ الوطن، وتاريخ الملك عبدالعزيز.. ويتناقش ويأخذ رأي الوالد في التاريخ الخاص للملك عبدالعزيز وتاريخ المملكة.. وكلنا يعلم أن الأمير طلال له باع طويل في التاريخ وله حلقات متلفزة عن تاريخ الملك عبدالعزيز.
وبينا أراجع أوراق الوالد عليه رحمة الله, شدّني مقال تحدث فيه عن دور الأمير طلال وأنه يستحق جائزة عالمية.. نظرًا لما قدَّمه خدمة للإنسانية، سرد فيه إنجازات الأمير طلال واستحقاقه لجائزة عالمية.. ولن أزيد على كلام الوالد - رحمه الله- وهذا تذكير بالمقال الذي كتبه الوالد عبدالرحمن بن سليمان الرويشد بعنوان:
سعوديون رواد في العمل الإنساني
هل ستسعى إليهم جائزة نوبل العالمية؟!
مهما وجه لجائزة نوبل العالمية أو للمشرفين على لجنة تحكيمها من نقد أو اتهام لبعض قراراتها، فستظل تلك الجائزة أشهر جائزة عالمية ترنو إليها الأبصار، وتتطلع لنيلها الهمم، وسيظل الاعتراف بها قائماً، وشاهداً على إسهاماتها في التقدم المعرفي، ولفت الانتباه إلى ضرورة تخفيف المعاناة الإنسانية في البلدان الأكثر فقراً.
وقد أثبتت لجان هذه الجائزة المرة بعد الأخرى القدرة على حسن الاختيار لمن يستحقها؛ فقد مُنحت هذا العام 2006م (1427هـ) لأحد رموز مكافحة العوز في العالم، وهو البروفيسور المصرفي (محمد يونس) من بنجلاديش، وإلى مصرفه المخصص لأعمال إقراض الفقراء، تقديراً لما يوحي به إنشاء مصرف من ذلك النوع إلى أهمية إيجاد وسائل ناجعة لمعالجة قضايا الفقر، فالفقر سبب طالما قوّضت به قواعد الأمن والاستقرار، وعندما نعالج قضاياه إنما نسعى جاهدين إلى إزالة أحد دواعي الإرهاب.. فالفقر مناخ تترعرع في حقله علل شتى بينها ذلك الخطر، ولهذا اختير صاحب ذلك المصرف من بين (191) مرشحاً ليفوز بالجائزة.
وجاء في بيان رئيس لجنة الجائزة (أولي دبنولت مجويس) أن سبب اختيار الفائز يكمن في أن تحقق السلام لم يكن ممكناً دون منح مجموعات من السكان وسائل تخلص من الفقر وتقي منه.
وعليه فقد مُنح ذلك الخبير الاقتصادي الجائزة مقابل جهوده في خدمة الإنسانية.
وفي رأينا، بل في رأي الكثير، أن ذلك السبب كاف ومعقول، ولا يسع أحد إلا يباركه وأن يصافح من أجله لجنة التحكيم.
ومع ثقة العالم بهذه الجائزة التي رصدت لها الأموال، تكفيراً عمَّا ربحه منشئها جراء اختراعه لمادة تسببت في قتل الآلاف من البشر.. مع ذلك، إلا أننا نتساءل: هل سيكون حظنا كعرب ورواد في ميدان العمل الإنساني من هذه الجائزة العالمية هو قراءتنا كل عام لأسماء من يرشحون ومن يفوزون بهذه الأعمال الجليلة؟ أم سيكون نصيبنا اللجوء دائماً إلى التعليلات التي أشاعتها الصحافة العربية قديماً حول هذه الجائزة، وأن من يفوز بها لا بد أن يكون عميلاً أو مشبوهاً، وأن لجانها منحازة، وأنها لا تختلف عن بقية المؤسسات في العالم التي تأثرت بالنفوذ الإسرائيلي الصهيوني.. إلى غير ذلك من أساليب تعودت أمتنا اللجوء إليها عند شعورها بالفشل!
فعندما فاز بالأمس القريب أحد أدباء العرب (نجيب محفوظ) بهذه الجائزة تفجّرت كل الأحقاد، وتعاملت الصحافة العربية مع ذلك الحدث تعاملاً مخجلاً، رغم أهميته، وتكبد الأديب الراحل جراء فوزه كل أنواع الأذى والنكد، وناله ما لم ينل غيره ممن ظفر بتلك الجائزة على كثرتهم!
إن كل ما أخشاه أن يكون هذا التعامل الفظ مع معطيات هذه الجائزة سبباً قوياً في أن يتأخر حصول بعض رواد سعوديين عرب بذلوا في المجال الإنساني والأعمال الخيرية أضعاف أضعاف ما بذله غيرهم، وأخص بالذكر واحداً من أولئك، يعرفه الجميع، ولا ينكره أحد.. إنه صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز، الذي وهب نفسه والكثير من ماله وجل وقته لمعالجة قضايا إنسانية عالمية.. وكان من أبرز المهام التي حملها على عاتقه إنشاء برنامج أولوياته دعم المشروعات الرامية لمكافحة الفقر، والتخفيف من آثاره، وكان آخر مبادرة له في هذا المجال إنشاء عدة بنوك ومصارف في الوطن العربي في البيئات الأكثر فقراً، واستقطبت مبادرته تلك تأييداً واسعاً، إذ أنشئ أول بنك في جمهورية اليمن، سُمي بنك (الأمل والاقتراض الميسّر).
وقد عد هذا الأمير السعودي أحد أبرز رواد الأعمال الإنسانية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم، حضوراً وعملاً، فاستطاع بفكره ومبادراته السباقة في هذا المجال أن ينجز أعمالاً تفوق في حجمها ما قدَّمه كثير من المحسنين، بل وكثير من المؤسسات الرسمية والشعبية العاملة في هذا المضمار مهما اختلفت البلدان والجنسيات!
وفي رأي الكثير أن هذه الجائزة العالمية ستفقد جزءاً كبيراً من مصداقيتها إذا كانت لا تملك سجلاً تفصيلياً عن أعمال هذا الرائد في مجال خدمة الإنسانية، وشمولية تلك الأعمال، بصرف النظر عن المواقع الجغرافية أو الانتماء الديني أو العرقي أو التوجه السياسي، سواء كانت لجان التحكيم لهذه الجائزة غير منتمية أو أنها إفراز حضاري غربي يمكن أن ينعكس على مواقفها بحكم الانتماء والثقافة.
وبهذا القدر، أو بقدر أكبر، ستخسر الصحافة المحلية والعربية والعالمية مثل ذلك، إن لم تكن تملك السجل نفسه!
وحتى لا أذهب بعيداً عن إجلاء هذه الصورة، فقد كانت بداية ممارسات هذا الأمير في مجالات الأعمال الإنسانية عندما حظي لأول مرة بتقدير جهوده في مجال خدمة أطفال العالم، فاختير ليكون المبعوث الخاص لليونسيف (صندوق الأمم المتحدة للطفولة) فكانت فرصته لزيارة معظم بلدان الدول النامية الأكثر فقراً، والاطلاع على معظم شؤونها، كما أتاحت له تلك السانحة الانغماس في معالجة تلك الأوضاع، فكان من نتائج ذلك أن انبثقت في ذهنه فكرة أكثر شمولاً وأقرب إلى تحقيق الأهداف، فأنشأ مؤسسة (برنامج الخليج)، وهي مؤسسة مستقلة مهمتها دعم منظمات الأمم المتحدة العاملة في ميدان التنمية البشرية ومساعدتها.
وعرفت تلك المؤسسة اختصاراً بـ(أجفند) التي تمثَّلت أولى مهماتها في تعزيز جهود قطاعات التعليم والصحة والتدريب، ومكافحة الفقر، وقد مضى على إنشائها حتى الآن أكثر من ربع قرن، فاستطاعت خلال تلك المدة، بجهود هذا الرائد، أن تصمد وتواصل دعم ما لا يقل عن 985 مشروعاً إنسانياً في 131 دولة ودعمها؛ معظمها في أكثر بلاد العالم فقراً كبلدان القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وبعض البلدان العربية.. قدَّم سموه هذه المؤسسة نموذجاً يرعاه سموه بماله وجهده ويمنحه جل وقته، طمعاً في أن يخفف عن تلك الفئات الفقيرة وطأة الفقر والمرض، وأن يدخل على قلوب الناس الأمل ويعيد لشفاههم الابتسامة من جديد.. فهل ستسعى إليه تلك الجائزة تقديراً لجهوده في أعمال التنمية الإنسانية؟! وهل يستحق منا التكريم محلياً وعالمياً؟! وإن كان لا ينقص من قدر جهوده كما لا ينقص دائماً من قدر الرواد أن تتخطاهم تلك الجائزة أو ذلك التكريم!
ولن يحملنا التخلّف أو سوء الظن على النقد الجائر لتلك الجائزة المحترمة أو للمشرفين عليها، ولا عن أسباب أخرى ننسب إليها سبب تأخر حصوله على كل ذلك، ما دام سموه يقدّم هذه الرعاية، وهذا الجهد دون مِنة وفوق كل اعتبار.انتهى المقال.
رحم الله الأمير طلال بن عبدالعزيز، وجزاه خيرًا على كل ما قدَّمه للوطن وأبناء الوطن.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- إبراهيم عبدالرحمن سليمان الرويشد