عبده الأسمري
عندما بدأنا الكتابة صغاراً كنا ننفذ بروفاتنا «الشجاعة» على السبورات «خلسة» وحتى على صخور طرقاتنا وكأننا نرسم ذكرياتنا بأعمق أدواتها.. ثم لم نلبث أن لاحقنا الأوراق المتناثرة لنرسم «تواقيعنا» المحفزة» عليها وكأنها خاتمة قرار.. وبعد أن تعانقنا مع حروف «الهجاء» بدأنا نقرأ ونكتب ونبتهج.. مضت السنين فنظر البعض للكتاب كصديق منحه كل عهود الوفاء فأتم عشرته معه في أبهى حلل التآلف والوئام فيما تسبب آخرون في خيانة عهدهم مع الكتاب حتى باتوا في عزلة عن لذة القراءة وانعزال عن متعة الكتابة. فظلوا في غياهب الانهزام.
دخلت الألواح الإلكترونية حياتنا وغمرت «الرسائل» التقنية عقولنا.. وانشغلت ذواتنا عن حنين ينبع من أعماق أرواحنا إلى آفاق المعرفة في ارتباط لا يحله إلا القلم ولا تنهي صراعه إلا ساحة «الكتب».
نرى يومياً عشرات الإعلانات عن الدورات التدريبية في التنمية البشرية وإدارة الوقت والأزمات والإدارة وحل المشكلات فيما لم نر دورة واحدة عن «سحر الكتابة» و»بحر القراءة» في تنمية الأذهان وتصفية الأحزان وتطوير الإنسان.. لذا بقيت أزماتنا متعلِّقة بمنابع الفكر وإلى أين تسير اتجاهاته؟!..
بحكم إشرافي على العلاج السلوكي والنفسي لعدد من الحالات المرضية النفسية التي ارتمت في متاهات «الاكتئاب» وأقبية القلق ونتوءات التوتر كنت مصراً أن أضع في جدول الاستشارات ممارسة القراءة والكتابة بدقة وانتقاء وتفاعل ووصال بين الحواس الذهنية والإحساس الفكري والنفسي مما يكفل الاندماج فيها ذاتياً وتحويلها إلى سلوك عيش وإلى «فضفضة» ذات وطريقة تطوير وكانت النتائج مذهلة في تشرّب السكينة والطمأنينة والمضي قدماً في دروب بيضاء انعتقت من سوءات البشر ومن تدخلات الغير، فكانت الحياة مع الأقلام والأوراق والكتب ترابطاً روحياً فريداً ينعش النفس ويسر الروح ويفرح الفؤاد.
السائرون في دروب المعرفة ومسارب الابتكار يرون الكتاب «وجهاً للعرفان وينظرون للقلم كمحفل للسلوان يعيشون تصالحاً مع الأنفس وتصافحاً مع الذوات التي تنقلهم إلى ملذات تملأ العقول برياضة فكرية تسهم في تجديد الخلايا وتجدد العطايا إلى حيث التأثير الشافع المقرون بالأثر النافع.
يحرص بعض البشر على خزن المال وادخار مساحات من التراب فيما تظل عقولهم في نقطة جمود تركِّز على أبعاد محيط منغلق لا يتجاوز مساحة تحركهم فيما آخرون يملؤون أوقاتهم بأرصدة «المعرفة» و»التعلّم» و»الثقافة» ويعبئون عقولهم بشحنات التجديد والابتكار فتجدهم «أسمى في التفكير» و»أزهي في التدبير» تفوح من أحاديثهم «نسائم الحكمة» وتشدو من أقوالهم «تراتيل الرقي».
للكتابة حنين يجعلنا عشاقاً على عتبات «الحروف» ومرابطين على أسوار «الكلمات» نطرق أبواب القراءة باحثين عن معين لا ينضب من البحث والتدبر.. ماضين إلى ما وراء المعرفة من «نعيم الفكر» الذي جعلنا نتفكر ونتدبر في كل ما حولنا لنكون في حالة من الحراك العلمي والاستثمار المعرفي.
ما بين الإنسان والقراءة والكتابة روابط عميقة جعلت العلم «نوراً» يضيء «عتمة» الجهل ويبدد «غمة» الأمية مكوناً غيمة تمطر «صيب»الفائدة ليتحول السلوك الإنساني في هذا المحفل إلى «واحة غناء» تزهو بأجمل الوسائل وأكمل الغايات.
للقراءة أعماق كل ما غاص فيها القارئ وجد الكنوز ليسمو في آفاق الكتابة ويحلِّق في سربه «الخاص» نحو إشباع غرور البحث عن كينونة الحياة وكيان العيش وليمضي في أفق حاشداً لهذه الرحلة الميمونة كل أدوات الاستعداد والعتاد ليصل إلى مستويات مثلى من رضا الذات وعون الآخرين والارتقاء بنفسه ليكون له «عالمه الخاص» العامر بالوقع الغامر بالنفع حتى يعطي للآخرين دروساً في «سعادة» مجانية سهلة المنال في بين جاذبية القراءة وملذات الكتابة.