د. حسن بن فهد الهويمل
تخصصي في [الأدب الحديث]، ولهذا تواجهني أسئلة ملحة:-
- لِمَ تحولت من الأدب إلى السياسة؟
الحق أن هواي في السياسة، ومكتبتي مفتوحة على كل شيء. حتى على عوالم الجن، والسحر، والخرافة، والهلوسات الطائفية.
وأكاد أجزم بأن حقل [السياسة] حقل خرافي، تُسيطر عليه الشياطين، والسحرة، والجن.
فما يقال فيها لا يُفْعل، وما لا يقال يُنَفَّذُ بحذافيره، لكنها تظل [ليلى] العاشقين. كلٌّ يدعي وصلها [وليلى لا تقر لهم بذاكا].
في هذا السياق عرفت الرؤساء الأمريكان من «جون كندي» حتى «ترامب»، ونقبت عمن سبق من الرؤساء.
شدني إلى «كندي» ما يتمتع به من [كارزمية] وزوجته الجميلة إلى حد الإدهاش. كنت شاباً، والشباب لهم قلوب تهوى، وليست لهم عقول تميز و:-
[القلب يعشق كل جميل]، و[الله جميل يحب الجمال].
الصدمة التي لم تلملم آثارها من مشاعر الأمريكيين، الطريقة الذكية البارعة التي اغتيل بها «جون كندي» عام 1961م.
وملايين الصفحات التي رصدت أحداث الاغتيال، لم ترو ظمأ الأمريكيين حتى الآن. ولما تزل الغصة عالقة في حناجرهم، لأن الحقيقة لما تزل غائبة.
منذ ذلك الحين، وحتى اللحظة كانت أمريكا الموضوع الرئيس في متابعتي. وحقول قضاياها، وزعمائها تتسع يوماً بعد يوم على رفوف مكتبتي لأنها الأقوى، وإن فقدت أشياء كثيرة من ألقها.
هذه التداعيات أثارها الموت الطبيعي لـ[بوش الأب]، وكل هالك يثير ثاويات الآمال، والآلام. ويَحدو بالمتابع إلى تقصي الحقائق، وبخاصة حين تكون الوفاة لرجل سطر على صفحات التاريخ أهم الأحداث.
«بوش» بعد خروجه من [البيت الأبيض] لملم شطراً من وثائقه، وأضاف إليها ما يسد الفجوات، وأخرجها إلى الناس عام 1999م. تحت عنوان [مع أطيب التمنيات حياتي في رسائل وكتابات أخرى].
وهو كتاب ضخم، يقع في تسعمائة، وثلاث وسبعين صفحة، اشتريته لأنه يسد خلة معرفية في السياسة الأمريكية. ولم آبه به، لأنه لا يحمل جاذبية السيَّر الذاتية، ولا يحلل الأحداث، ولكنه يوثقها، ويعتمد التسلسل الزمني.
كان كتابه ثاوياً في رفوف الرؤساء، وما كنت أجد الفراغ، ولا الرغبة في تناوله.
ولكن موته شد عضدي، وحملني على استعراضه. فالرجل دخل ذمَّة التاريخ. لقد استعرضت مفاتحه، من تقديم، ومقدمة، وخاتمة، وفهارس.
وقرأت بتمعن الموضوعين الأخيرين منه:-
- [أسوأ الأيام].
- [التطلع إلى المستقبل].
والأخير كتبه بعد مبارحته [البيت الأبيض] فيما كتب الأول في [أيامه الأخيرة]. يعجبني في تداول السلطة في [أمريكا]، و[الدول الأوروبية] بساطتها، وانسيابيتها، وعودة الرئيس إلى حياته الطبيعية، دونما ولادات متعسرة، ولا قيصريات مؤلمة. وهو ما تفتقده بعض الدول العسكرية في أمتنا العربية. وهذا يعرضها للفراغات الدستورية المهلكة.
يقول [بوش] بكل أريحية:-
[بعد أن أقسم بيل كلينتون بوصفه الرئيس الثاني، والأربعين للولايات المتحدة، غادرت أنا وباربرا، وكلبانا واشنطن].
وأول التحديات التي ساورته الخطوة التالية، يقول:-
[عدنا الآن مجرد مواطنين عاديين بعيداً عن الأضواء].
الشيء الذي يحتاجه في هذه الظروف أن تكون زوجته [طاهية جيدة] وأن يكون هو [غاسل صحون ماهر] هكذا كانت حالهما بعد حكم العالم كله، وهذا ما قاله [بوش الأب] في مذكراته.
شيئان يبحث الزوجان عنهما بعد خروجهما من [البيت الأبيض]:-
- ملء الفراغ الذي سيعانيانه.
- وزيادة دخلهما المادي.
وأول عمل يمارسانه كتابة مذكراتهما. يقول [بوش] عن مستهل أعمالهما متحدثاً عن زوجته:- [وقَّعَتْ عقد كتاب]. صدر هذا الكتاب تحت عنوان [ذكرى]. وكان من أفضل الكتب مبيعاً في أمريكا.
ما أود الإشارة إليه، أن الشعب الأمريكي شعب [عاطفي]، ودور النشر العالمية تستغل هذه العاطفة بشكل إنهاكي.
فالرموز كالرؤساء، وزوجاتهم، وقادة العمليات العسكرية، والوسطاء في الأزمات السياسية هم المادة الثرية.
وقد لا يكون البعض منهم قادراً على التأليف، فتقوم هذه الدور العملاقة بالاستعانة بالمقتدرين المغمورين، وتجمع بينهما بحيث تقوم الشخصية المهمة بتقديم ما لديها من وثائق، وتملي ماعندها من معلومات مسموح بتسريبها، فينجز المقتدر المغمور العمل باسم الشخصية المهمة، ثم يكون الإقبال المنقطع النظير.
المذكرات، والسير الذاتية التي يباع منها الملايين، لا تحمل من الحقائق إلا اليسير، والمتابع يضرب بعضها ببعض كـ[بقرة بني إسرائيل] لتظهر الحقيقة، أو بعضها.
[بوش الأب] دخل حرباً قد نسميها [الحرب الثالثة]. إذ حشد لها نصف مليون مقاتل، وثلاث عشرة حاملة طائرات. ورغم شرعية الفعل، والانتصار الساحق، إلا أنه وقف عند حد المهمة، ولم يُغْره الانتصار، ولا الإمكانيات بالإيغال، ودخول العاصمة.
ولم يتلبس مهمته أيُّ زيف. فيما جاء [بوش الابن] بأكبر كذبة سياسية، كانت البداية لانهيار الأمة العربية، والسمعة الأمريكية معاً.
كانت [المملكة العربية السعودية] رائدة في الأولى، حيادية في الثانية، ولهذا ظلت في مَنْأى عن ويلات [الربيع العربي] وكافة مستنقعاته الدموية، والتدميرية.
[بوش الأب] لم يتوفر على [كارزمية] [كلينتون]، ولا على لَسَنَ [أوباما]، ولا على إثارة [ترامب]. وكان في مَنْأى عن بشاعة [بوش الابن].
كان عسكرياً يتمتع بالربط، والضبط. والقرارات العازمة، الجازمة.
في عهده أعادت أمريكا شيئاً من هيبتها، وتخلصت من عزلتها، وأعادت ثقة حلفائها بها.
ولكن [بوش الابن] أضاع الكثير من منجز أبيه.