د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«إن من البيان لسحرا»، مقولة وردت في أحد أحاديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وقصد بها أن الكلام يجري مجرى السحر في إظهار الحق أو في تغليب الباطل عليه، فقد يظهر البيان الباطل حقاً أو العكس. واكتشف بعض الفلاسفة هذه الحقيقة في العصر الحديث بشكل استقرائي بعد ذلك بعشرات القرون، وحمل بعضهم اللغة مسؤولية إفساد العقل صراحة. ولا يختلف باحثان اليوم على أهمية اللغة في تشكيل الوعي، أو تصوير الحقيقة، فاللغة أحد المفاتيح السياسية، وحولها تدور معظم المهام الإعلامية والقانونية.
«تسيد الإنجليزية» عنوان يعكس بعض حقيقتها لسببين: الأول، كونه عبارة غامضة لها معنيان: تسيد اللغة الإنجليزية لعالم اليوم أو ما يسمى بالإنجليزية English hegemony؛ وتسيد اللغة الإنجليزية بالتمكن القوي منها وما يقابله بالإنجليزية mastering English. ومصطلح «تسيد» بهذا المعنى يذهب لما هو أبعد من مجرد إجادة الكلام، أو إجادة قواعد الإنجليزية إلى القدرة على الإقناع بها، واختيار العبارات البيانية المناسبة للسياقات المطروحة. وهذه مهمة تتطلب جهداً وتدريباً حتى من الناطقين الأصليين بها، فليس كل من ولد ينطق بالإنجليزية تسيدها، وقد يتسيدها من تعلمها ولم يكتسبها.
والمفهوم الأول «للتسيد» يتعلق بكون الإنجليزية هي لغة التخاطب العالمي الأولى lingua franca، وهي كذلك لعدة أسباب من أهمها السيطرة الاقتصادية والسياسية للدول الناطقة بها على العالم لقرون، بريطانيا وإمبراطورتيها التي، كما يقال، لم تكن تغرب عنها الشمس ثم أمريكا القوة العظمى المتفردة بالعالم بعد الحرب العالمية الثانية. وتعتمد معظم مستعمرات بريطانيا الضخمة السابقة كالهند، ونيجيريا، وهونج كونج، وتايوان، وجنوب أفريقيا الإنجليزية كلغة رسمية. ورغم ذلك كانت الألمانية تقريباً أهم لغات العلم والبحث قبل انهزام ألمانيا النازية لتسيد الألمان البحث العلمي في أوائل القرن العشرين. وكادت الألمانية يومًا ما أن تكون لغة أمريكا الرسمية وخسرت بأصوات قليلة في الكونجرس. ومعروف أن اللغة الروسية هي اللغة الثانية الأولى في كافة الدول التي دارت في فلك الاتحاد السوفيتي سابقًا.
و»تسيد» اللغة الإنجليزية اليوم يزداد يومًا بعد الآخر كلما صغر العالم وتحول لجسد واحد متقارب، أو قرية صغيرة كما وصفه ماكلوهان، فلا يمكن أن تكون لقرية صغيرة لغات متعددة. وكلما زاد تحكم الإنترنت، ووسائل الإعلام الرسمي وغير الرسمي في العالم، زادت أهمية الإنجليزية. فلا غرو أن جميع مسؤولي المنظمات الدولية يتحدثون الإنجليزية، بالرغم من اللغات المقرة لها والمعترف بها رسمياً يتجاوز عددها عدد أصابع اليد. ويستطيع أي مسؤول أن يخاطب العالم بالفرنسية أو الألمانية أو العربية، ولكن لغته حتمًا ستفقد سحرها بالترجمة، فمن يخرج الكلام مباشرة مترجماً غير المتكلم، ولديه وقت ضيق جدًا للترجمة، فيحرص على إيصال المعني حتى ولو فقد جزءاً من البيان أو جله. بل إن المعنى ذاته يضيع الكثير منه في الترجمة. والمتحدث أمام خيارين لا ثالث لهما: الخطاب بشكل مؤثر بالإنجليزية مباشرة، إذا ما كان «يتسيد» ناصيتها، أو الكلام عبر مترجم بشكل ممل غير مؤثر. ولذا يحرص كثير من مسؤولي دول كبرى على الحديث بالإنجليزية مباشرة عندما يكون المطلوب التأثير على أكبر عدد من المتلقين.
الخيار اللغوي للتخاطب في المؤسسات الدولية ليس إلا وضعًا مصغرًا للتخاطب مع العالم ككل عبر وسائل العالم المدولة. وما زالت الإنجليزية هي اللغة المؤثرة ولذا فلجميع وزارات الإعلام في العالم المتقدم محطات تخاطب الشعوب بلغتها مباشرة، أو عبر محطات تخاطبها باللغة الإنجليزية على اعتبار أن عدداً كبيراً من أبناء هذه الشعوب يفهمها. وكانت إذاعة البي بي سي تبث بأربعين لغة، ويقال إن راديو ليبرتي الذي أسسه حلف الأطلسي كان يذيع بلغات شعوب الاتحاد السوفيتي سابقًا، وكان عاملاً مهماً أسهم في سقوط الحلف. ولكنه بعد انتهاء الحرب الباردة أقفلت محطاته لتحول شعوب هذه الدول لتعلم الإنجليزية.
ويستغرب البعض لضعف دورنا الإعلامي الخارجي، والسر في ذلك هو غياب إعلامنا بأهم لغة في العالم، ثم اختيار من يتخاطب مع العالم الخارجي بلغة إنجليزية قد تكون صحيحة ولكنها منفرة، منفرة لسوء النطق بها، أو عدم التمكن من ناصيتها وتسيدها. وكان العالم يصغي لشخصيات مثل الأمير سعود الفيصل، والملك حسين، لأنهما رحمهما الله تسيدا اللغة الإنجليزية وعرفا مناسبة عباراتها لمقامات حالها. وعكس ذلك بعض ما نسمعه أو نقرأه بالإنجليزية هذه الأيام في سبيل توضيح قضايانا المصيرية حيث يؤثر عدم تسيد اللغة على «بيانها» وفي خلط الحق الطبيعي بالباطل اللغوي.