د. خيرية السقاف
المواطنة الحقة قيمة وفكر وإحساس وعمل دؤوب صامت جاد وإن التعبير عن المواطنة الحقة ليس باللهاث وراء المنافع وليس بالتخطيط لبلوغ المآرب، وليس بالتقليل من شأن الناس الذين قد يكونون أرفع نسبًا، وأنقى يدًا، وأصدق عطاء..
لن تجدي الكلمات البراقة في تحقيق المواطنة، ولا يثبتها التحيز للقبيلة، والجماعة، والحزب، والفئة ولا تؤكدها رؤية الذات، والعمى عن ذوات الآخرين..
ولا تحتاج إلى كلمات، وشعارات، وأبواق، وهزِّ كتوف..
وليست تثبت بالصراخ، والمناكبة، والمشاجرة، والتكتل..
ولا تؤكد بنقض الأسوار، وهدم الجسور بين الفرد، والآخر لأي من تلك الدوافع..
تزكم الأنوف هذه الأنواع من البشر من يجعلون من كلمة المواطنة سيفًا على رقابهم قبل رقاب الآخرين، وساحة كشف لحقيقتهم قبل أن ينالوا من غيرهم، ومحك اختبار لوعيهم وأخلاقهم وبواطنهم..
المواطنة الحقة قلب ينبض بنوايا الخير، دافعه الإيمان المطلق بالتآخي مع أعضاء الجسد، والتآلف مع قيم الشرع في علاقة المرء بالمرء، فكل الناس لا تدري بأي أرض تولد، أو ترزق، أو تموت، بنص الآية الكريمة العظيمة التي تؤكدها أخرى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ولكن {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ}، طلقاء كما هو القمر والشمس: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ}، «وَالْقَمَرَ... وَالشَّمْسَ..»، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}؟!..
إنه كون مطلق لا يقوم عماره إلا بالإنسان، وينتهي بآخر فسيلة لم تحدد بقعتها، ويأتي اليوم الذي فيه يحشرون بلا هوية، ولا نسب، ولا أسرة، ولا قبيلة، ولا منصب، ولا جنس، ولا أب، ولا أم، يفر المرء فيه بنفسه، يأتي وقد علم أنه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} (101) سورة المؤمنون {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ}، {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
المواطنة الحقة هي الإيمان المطلق بحق الآخر في العيش السليم، كما قال رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وترك مدلول الأخوة مطلقًا يشمل أخوة الدين الشاملة، فهل تكون بغير نبذ الاختلاف على لون، أو صفة، أو كنية، أو جماعة؟!
وهو عليه الصلاة والسلام آخى بين كل الأعراق، والألوان، والشخوص، وتكافل معهم، وتقبلهم، ورضي بهم إخوة، آكلهم، ورافقهم، لا يجمعهم عرق، ولا لون، إلا كلمة التوحيد!! أليس هو القدوة ومن لا يقتدي به، ولا يهتدي بهديه يكون من الخاسرين؟ وأي خسارة؟!
وهذا الوطن فيه نظام شامل يجمع لا يفرق، ويدعو لألفة الجسد لا لفرقة النفوس، ويرفض كل سلوك لا يحقق وحدة الهدف، والمقاصد، والعمل.. هؤلاء «جهلة الحقيقة» الذين يتنابزون، الذين يخدشون النسيج، الذين يقيمون بين بعضهم خيوط عنكبوت سرعان ما ينقضونها على كلمة، أو في نقاش، أو عند إبداء رأي، وهم قد يجهلون عمن يجرحون..
هؤلاء الذين يسهل عليهم اللمز، والكلمة البذيئة، والقول المسيء إلى متى؟ وكل الطرق موصدة أمامهم، لكنهم يتنابزون.
إلى متى، وهم يتنططون بهشاشتهم في مواقع التواصل، وفي المجالس، وعند المحكات؟!
ألا يكونون مواطنين صالحين، أتقياء، أنقياء للنجاة في الحياتين. وللحرص على نقاء الهواء الذي يستنشقون، ليكونوا مواطنين صالحين، يلتفتون للعمل، ويشغلون أنفسهم بتهذيب أنفسهم؟!، وبزجها في طرق العمل، والإنتاج؟!..
فالمواطنة ليست لقبًا، ولا مالاً، ولا جاهًا .. المواطنة حب يثمر، وتآخ يشدُّ، وتوافق ينتج، ورضا يسر، وعمل يبني..