د. حمزة السالم
في السبعينات، خطب نيكسون في نورث كارولاينا خطبة عصماء أفصح فيها عن عزمه لحماية صناعة النسيج في بلاده من الاستيراد الأجنبي. وتحالف نيكسون في حربه هذه مع الأوربيين، الذين كانوا يعانون من المشكلة نفسها. فتعاهد حلفاء رواد صناعة النسيج والملابس على اتفاقية فرض الحصص المحددة المُفصلة من النسيج والثياب والملابس لكل دولة. وقد كانت صناعة النسيج الكورية من أعظم المتضررين من هذا القرار، حيث وجدت نفسها أمام حاجز تجاوزها حصص التصدير.
تزامن ذلك مع هم وطني حمله عبد المجيد تشودري، وهو يرى بلاده بنجلاديش بعد الحرب الأهلية، وهي من أفقر بلاد العالم وأكثرها بطالة وجهلاً وقد انتشرت فيها العصابات واكتظت باللاجئين. ساح عبد المجيد في البلاد يبحث عن فرصة اقتصادية لبلاده تنقذها من المهلكة التي تسير إليها سيرًا حثيثًا. وفي كوريا رأى ما جذب انتباهه. فبنجلاديش من أعلى الدول في زيادة نسبة النساء على الرجال. فقد رأى عبد المجيد الفرصة التي يبحث عنها في مصانع النسيج الكورية، وقد غلبت عليها العمالة النسائية. فحلم بها في بلاده، ولم يدر أن حلمه جاء متوافقًا مع فرصة فرض الحصص على الاستيراد. تلطف عبد المجيد حتى استطاع أخذ موعد مع كيم الكوري، الرئيس التنفيذي لأكبر شركات صناعة الملابس في كوريا. كان موعدًا للقاء عابر، لا يتجاوز دقائق خلال استراحة الغذاء، لكنه امتد إلى قرابة فجر ذلك اليوم في عام 1971م.
يقول كيم في مقابلته «كانت رائحته لا تطاق بالنسبة لنا نحن الكوريين»، ولكن حديث عبد المجيد عن ميزة العمالة النسائية في بنجلاديش، أراه طوق النجاة من التخصيص الاستيرادي الأمريكي الأوربي. وهكذا تخرج إبداعات الحلول والابتكارات من مخاض نقاشات الأذكياء، إذا اجتمعوا على طاولة الحلول، وقد خلت نفوسهم من التحاسد وزالت عنها أسباب التنافس الهدام، وتواجدت أسباب التنافس البناء.
وعاد عبد المجيد إلى بنجلاديش، وهو يحمل تحديًا حقيقيًا. فقد كان مكلفًا بإحضار 120 مرشحًا بنقاليًا ليتدربوا ستة أشهر في كوريا على إدارة مصانع النسيج. ومن أين له برجال مناسبين وليس في بنجلاديش- آنذاك- إلا ثقافة الجهل والأمية وفلاحة الأرض؟ وعاد عبد المجيد بالرجال المطلوبين، فما أن وطأ البنقال الأرض الكورية حتى اشمأزت نفوسهم من الكوريين، واستفرغت البطون طعامهم. فكان الدرس الأول، أن حشا عبد المجيد بطون رجاله بأشد طعام الكوريين مذاقًا، وأنذرهم أن لا والله ولو تفتقت أمعاؤكم وتقلبت معدتكم، حتى تسطع من محياكم نضرة طيب الطعام، وتحكي الصحون الفارغة لذة المذاق، ثم تتفتح عقولكم على ثقافات الشعوب من غيركم، لتفهموا حديثهم وتنالوا من علومهم. وعاد البنقال بمستشار كوري ليبنوا مصانع الملابس والنسيج في بلادهم. عادوا بعدما اجتازوا برنامج التدريب الصارم بنجاح حقيقي، فقد كان الكوريون يستثمرون فيهم، لا يستثمرون منهم. عاد البنقال مُديرين حقيقة لا صورة، فما كان المستشار الكوري ليقوم بالعمل عنهم ليُسجل باسمهم، والمستشار هو من يدفع لهم وليس هم من يدفعون له، كما هو حال دول الخليج. وقامت صناعة الملابس والنسيج في بنجلاديش من الصفر، وأصبحت اليوم تشكل ثمانين بالمئة من صادرات البلاد. كما أصبحت هذه الصناعة هي محرك الاقتصاد في بنجلاديش. فغالب إنتاج البلاد من أجل صناعة النسيج، ومن أجل ما يستهلكه القادرون على الشراء من عمالة مصانع النسيج من مأكل ومسكن ومشرب. واليوم قد تضاعف دخل البنقالي عشرة أضعاف عما كان عليه في السبعينات، (وبإخراج التضخم، يصبح ستة أضعاف). وأما خطط نيكسون وحلفائه الأوربيين، فقد انقلبت عليهم. حيث قلد كوريا في التفافها على الحصص المصدرة، دول كثيرة قامت بتوليد بلدان مصدرة جديدة. فتوجهت الهند مثلاً إلى نيبال، وقصدت تايوان كمبوديا، وذهبت سيرلانكا للمالديف، وهكذا فعلت الصين وغيرها. واليوم لا تكاد تجد ملبوسًا أو نسيجًا في أوربا وأمريكا إلا وهو مستورد من خارجها.