في الحياة العامة يشرّع الناس قوانين وأنظمة ولوائح تضمن إلى حد ما عدم انتهاك الحقوق العامة والخاصة، وهذه طبيعة الحياة الاجتماعية. تكمن الخطورة حين تتوالد هذه الأنظمة والقوانين وتتكاثر لتشكِّل عبئاً على المعنيّ بالالتزام بالنظام، أو يكون تطبيقها منافياً للهدف الذي وضعت لتنظيمه. ومصدر هذا التوالد هو بناؤها على حالات الانتهاك ومحاولة سد ذرائعه والتضييق على من يحاول اختراق القانون، وليس مصدره بناءها على أساس إتقان العمل ومصلحة المستفيدين من النظام. وفي كل حالة لا بد من التعويل إلى حد ما على الوازع أو الضمير الحي، أي وجود ما نسميه في الحياة الدينية الوازع الديني، فالحياة الثقافية تحتاج إلى وازع ثقافي داخلي يحول دون انتهاك الأنظمة الثقافية وإن غفل النظام عن الشخص، وكذلك لا بد من وازع اجتماعي يمنع مثلاً تعدي الكبير على الصغير أو القوي على الضعيف وفي الوقت نفسه لا يضيَّق الخناق على القوي أو الكبير حتى يضمن عدم تعديه، وفي الحياة العامة لا بد من وجود وازع حضاري مثلاً يمنع من إلقاء المهملات في وسط الشارع، وليس وجود نظام أو تشريع بمنع حمل المهملات أو وجودها في كل حالة.
وفي الحياة الأكاديمية لا غنى عن الأنظمة والقوانين؛ لكن لا بد من هامش للتعويل على ما يُسمى الوازع الأكاديمي، وهو أن نعوّل على مصداقية الأكاديمي إلى حد ما. الإشكال حين تُخلق أنظمة بنيت على أساس التضييق على من انتهك القوانين الأساسية ولم يكن لديه وازع. وسأضرب بمثالين من واقع تجربتي أكاديمياً في الجامعة حدث فيهما تفريغ الأنظمة من مضمونها فأضرت بالطلاب والطالبات دون أن تحقق الهدف الذي وضعت له.
المثال الأول: تشديد الجامعة على المشرف الذي كتب تقريراً بأن طالبه/طالبته قد انتهى وسلّم بحثه، مباشرة يسقط هذا الطالب من عبء المشرف! الذي يحدث في الواقع أننا نتعاون مع الطلاب ونكتب التقرير حتى لا يؤثّر تأخرهم على بعثاتهم فتُقطع أو يتضرروا بأي شكل مثل عدم الحصول على مرتبة الشرف، وفي الواقع الفعلي فتسليم البحث يعني أن يكون المبذول معه مضاعفا؛ فمن خلال تجربتي حين يسلم الطالب بحثه يستهلك في الواقع أكثر من غيره جهداً ووقتاً. ولهذا وبعد تضرري من هذا النظام أوقفت التعاون؛ لأنني تضرَّرت من تعاوني السابق مع الطلاب والطالبات إلا إذا كان هناك ظروف قاهرة جداً لكي أتعاون مع الطالب وأضر بنفسي، لكن بوجه عام قرَّرت عدم تكرار التجربة التي تضرَّرت منها، والخاسر في النهاية هو من نشرف عليهم من الطلاب.
المثال الثاني أن طالب الماجستير أو الدكتوراه يُحسب في مرحلة تقديم الفكرة البحثية والخطة بثلث ساعة في النصاب الدراسي! هذه المرحلة هي الأخرى أيضاً تستهلك من الجهد والطاقة والوقت ما يفوق الساعة أسبوعياً، وقد كنت أقوم بذلك رغبة في مساعدة الطلاب والطالبات ليعبّروا هذه المرحلة الحرجة والحساسة؛ لكن بعد التشديد وتفريغ النظام من مضمونه سأقرر مرة أخرى عدم التعاون إلا في أضيق الحدود، والنتيجة أن يتأخر الطلاب إلى إيجاد مرشد أو مشرف أو أن يتأخروا في إنجاز عملهم.
المشكل الكبير أن هذا التفريغ حدث بسبب استغلال البعض السيئ للأنظمة وعدم قيامهم بواجبهم تجاه طلابهم؛ لكن للأسف أن هذا التفريغ لم يوقف هذا الاستغلال؛ بل هو نفسه اتُخذ ذريعة لدى المستغل لكي يقصِّر في عمله وفي تعاونه مع الطلاب وإن كان في الواقع لا يكترث بكونها تحسب ساعة أو لا تحسب أو تحسب ثلث ساعة أو لا تحسب لأنه في كل الحالات لن يعطي الطالب من وقته؛ بل سيتحجج بهذا التفريغ لزيادة سوئه ولـ(زحلقة) الضغط والمعاناة على الطالب!
الحقيقة أن الأكاديمي في هذه الحالة من التضييق نوعان: إما أن يكون معدوم الوازع والإنسانية ولا يبالي بكم تحسب لأنه في الواقع لا يقدم المطلوب مع الطلاب ولا يبذل جهداً في الأساس؛ فهو يلقي العبء في جميع الحالات على الطلاب. وبالمناسبة فأغلب من لا يبالون بالطالب يطلبون عدم التواصل أثناء الإجازات الرسمية ومنها الإجازة الصيفية لأنهم يرون أن التكليف مثل التدريس ينقطع بانتهاء الفصل الدراسي. النوع الآخر: من يقرِّر أن يوقف التعاون والتهاون مع الطلاب لأن علاقته معهم التزام أدبي ومهني قبل أن تكون التزاماً نظامياً خاضعاً للأنظمة. فإذا حسب الإرشاد له بثلث ساعة لا يمكنه بأي حال ألا يبذل سوى ثلث الجهد في الأسبوع (20 دقيقة)؛ بل يبذل جهداً أكبر حتى ينجز الطالب خطته ويتجاوز هذه المرحلة. وإذا لم يحسب له الطالب الذي سلّم بحثه بأي شيء فليس أمامه إلا أن يعتذر عن التعاون معه في كتابة التقرير حتى ينتهي الجهد المكثّف الذي تتطلبه المرحلة. وفي مقابل الفئة الأخرى فأنا شخصياً ومثلي الكثيرون لا نتوقف حتى في أثناء الإجازات والعطل الرسمية. أتمنى أن يدرك بعض المشرعين للأنظمة أن هناك هامشاً يعول عليه وهو هامش الوازع كما في التعويل عليه في العبادات التي بينك وبين الله، فالمسلم يصوم ويتوقف عن الأكل الشرب حتى في الخفاء لوجود الوازع لديه، ولا يلزم شرعياً لضمان عدم الأكل والشرب أن يغلق المسلم مطبخه سداً لذريعة الأكل والشرب. ولنا في تجارب العالم المتقدم أمثلة واضحة؛ فأتذكر أننا كنا نركب القطارات في بريطانيا دون وجود أحد يتحقق من شرائنا تذاكر القطار مع وجود تحقق عشوائي، ومن وجدوه منتهكاً للنظام يعاقب ولا يعطلون النظام برمته ويؤخر الآخرون لأجل التحقق من التزام الجميع بشراء التذاكر مع إدراكهم أن هناك نسبة ليست قليلة تنجو! وقد كانت هناك نقاشات وشكاوى من بعض الخسائر في دخل التذاكر لكن هذا لم يجعلهم يبنون أنظمتهم بالنظر إلى الفاسدين ويعطِّلون على الآخرين أعمالهم.
الذي دفعني لهذه الكتابة هو إحساسي أن الخاسر في النهاية هو الطالب لأنه سيفتقد التعاون أو سيفتقد العطاء الكامل من مشرفه أو مرشده الأكاديمي. والمشكل الآخر أن المتلاعب بالأنظمة مثل الجرثومة والفيروس الوبائي الذي سرعان ما يكتسب مناعة من أي لقاح؛ فمهما وضعت التشريعات وبولغ فيها إلى درجة تحولها إلى أغلال فالمتضرر الحقيقي هو من لا يتلاعب بالنظام والذي يعطي بلا حدود أو أنه سيضطر إلى تقديم الحد الأدنى من العطاء العلمي للطالب أو يوقف التعاون والعطاء للطلاب إلا بحدود ما يستطيع؛ فالخاسر هنا الطلاب والنظام الأكاديمي ككل. وللأسف هذه الأنظمة المتوالدة نقابلها في الترقيات وفي الإشراف والمؤتمرات والتفرغات العلمية، ومن يتلاعب كما قلت فهو يجيد اللعبة البهلوانية في تغيير جلده بحسب قواعد اللعبة تماماً كالبهلواني ويتأقلم مع متطلبات النظام الجديد؛ أما من يراعي القواعد العامة ولديه وازع داخلي أكاديمي فهو للأسف ضحية الالتزام! ولا يتمتع بقدر كاف من (الذهانة)!
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي