د. فهد بن علي العليان
بعد ما يزيد على ثلاثة عقود، يخرج صاحبكم من داره ويغادر قاعته، فيتردد كثيراً وينقبض فؤاده ويتأمل؛ إذ ليس أمراً سهلاً أن يخرج المرء من مكان ألفه وأحبه، تعلم فيه الكثير وعلّمَ القليل.
حين قرر صاحبكم إغلاق باب (القاعة) التي يلتقي فيها بزملائه (الدارسين) في مختلف مراحلهم الجامعية وما فوقها، فإن ذلك لم يكن أمراً سهلاً، فلم تكن القاعة خالية، ولا فؤاده فارغاً من التعلق بها.
ثم إنني حين قررت أن أبوح بكلمات عن المغادرة الاختيارية (القاسية) لم يكن أمامي إلا أن أسترجع حروفي التي أرسلتها لزملائي وزميلاتي أساتذة وأستاذات قسم المناهج، حين كتبت لهم:
((الزملاء والزميلات: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وأسعد الله مساءكم بالخيرات.. إذا كانت الكلمات (تجود)، فإن أخاكم في مثل هذه اللحظات (لا يجيد).. كان قرار الابتعاد (الجزئي) عن الجامعة صعباً.. واليوم، يأتي الابتعاد (الكلي)، وهو مؤلم.. كتب أخوكم رغبته في (التقاعد)، ثم حبسها.. واليوم يطلق (حروفه) في قسم المناهج، مودعاً زملاءه وزميلاته. ليس أمراً سهلاً، فما أقسى المغادرة!
ولو كانَ في سَفْحِ الدُّموعِ تَعِلَّةٌ
غَزَلْتُ دموعي طولَ عُمْري بِمِغزَلِ
كلما هممت بمغادرة (المجموعة)، تأبى النفس ويمتنع اليراع. والآن، وبعد أن اقترب أخوكم من نهاية جولته الأخيرة في دهاليز داره (الجامعة)، فإنه يستأذنكم بالانصراف، تاركاً معكم ذكرى (عملية وعلمية) لا ينساها في هذا القسم المبارك. وهنا، يطلب أخوكم الصفح والمسامحة عن كل تقصير.. حفظكم الله جميعاً.. ودعواتكم أحتاجها)).
الآن، وأنا أحلق في السماء، أركب الطائرة، تأتي هذه الحروف بعد أشهر من مغادرة (القاعة) أمسك بيدي أحد الكتب عن سيرة أحد الوراقين فأستمتع بذكرياته، وتتجدد ذكرياتي حين كنت أقضي وقتي في السماء أراجع رسالة علمية لزملاء وزميلات مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، أو يلزمني إلحاح الدارسين أن أقوم بتحكيم الاستبانة وأدوات الدراسة. لقد انقطعت ولم تنته تلك المتعة، فما أجملها من ساعات يقضي فيها أستاذ الجامعة وقته في دهاليز تخصصه العلمي.
بعد كل هذا التطواف في ردهات الجامعة، يستمر الترحال إلى مختلف مناطق ومحافظات مملكتنا الغالية من أجل (خير الجزيرة لأهل الجزيرة) فأسعد بلقاء أولئك في تلك الجمعية، وأتشرف بجمع يجمعهم الهم نفسه في وطن النماء والعطاء.
هذه الحروف ليست بكاء على الماضي الجميل، بل تعبير عن مهنة التعليم الجليلة؛ حين يلتقي أستاذ الجامعة بطلابه فيخرجون بكنوز من النقاش والطرح العلمي الرائع..
ينتهي كثير من الأكاديميين القياديين في العالم من مهنتهم الإدارية ثم يعودون إلى (القاعة) فتبقى الجامعة المحضن الأروع.
حين قرأت ما كتبه بعض الأكاديميين من استنكارهم للنكران من جامعاتهم بعد رحليهم، ترددت في الكتابة، ثم عزمت على أن أسوق هذه الحروف من الزاوية الإيجابية معتزاً بما مضى من أيام وسنين كانت فيها مرحلة الابتعاث مدرسة الحياة، مستمتعاً بالحاضر الجميل، مؤملاً في الغد المشرق، داعياً في الوقت نفسه كل من غادر الجامعة أن يدني حوله الصديق الأوفى (الكتاب) واللسان المعبر (القلم) ليكونا معه في كل أوقاته، يقرأ ويتأمل ليبقى معه (الأمل) ما بقي الزمن.
غادر أخوكم (القاعة) وبقي أصحابها في وجدانه.
الجامعة.. منارة.