د. إبراهيم بن محمد الشتوي
الكتابة هي الوسيلة الأولى التي يتخذها الإنسان لتقييد تاريخه، فيسجل الأحداث التي وردت، وربما يروي بعض الخطب، أو القصائد أو ما كتب من رسائل في الأحداث ليؤكد ما رواه من أخبار أو حقائق، فتدوم عبر السنين، تتداولها الأجيال.
بيد أن هذه الوسيلة «الأمينة» إن صح التعبير، التي يأتمنها الإنسان على تاريخه، وحضارته، وثقافته، كما تقدم ما استودع فيها من قبل الإنسان، فإنها أيضاً تمنحه الدخول إلى عوالم غير مرئية -أحياناً- من خلالها، ليست مذكورة فيها، بل ربما تناقضها، وتعطيه فرصة فهم الماضي ثم الحاضر خارج الكلمات المكتوبة، وإن كان بهدي منها أحياناً.
حين أعود إلى ما كتبه ميشيل فوكو في كتابه «تاريخ الجنسانية»، وأنظر في الجزء الأول من تاريخه، أجد أنه قدم بمقدمة يحكي فيها الواقع الذي كان يعيشه الناس فيما سماه بالعصر الفيكتوري، أنه كان عصراً محافظاً، يتحرج من الحديث عن القضايا الجنسية، وما يخرج عن الذوق العام، يسعى الرجال والنساء على السواء على الاحتشام فيه في الملبس، والمظهر حذر أن يبدو من ملابسهم ما يبعث على الإيحاء الجنسي، فيثير غرائز الآخرين من الرجال أو النساء، ويبعث على التفكير فيه، يختارون وينتقون ألفاظهم انتقاء كاملاً بل إن الآداب العامة، والمؤسسات الرسمية صارت تحرص على هذا السلوك، وتسعى لتأديب الناس بهذه الآداب، وبمحاولة تنقية أحاديهم في المجالس العامة والخاصة مما يخدش الحياء، ويوحي ببعض الإيحاءات الجنسية، بل ربما عقدت الجلسات الخاصة لمراجعة أحوال الناس؛ ما يأتون أو يذرون مما قد يكون له صلة بهذه الموضوعات بصورة من الصور، وتبين فيها طرائق الحديث اللائق الذي يجعل الكلام محافظاً محتشماً خالياً مما يخدش الحياء.
بل لا يقتصر الأمر على الكلام، واللغة، والملبس وإنما يتجاوزه أيضاً إلى الهندسة العمرانية، حيث نجد أن المهندسين يراعون فيما يضعون من مخططات هذه الأخلاق، فتبتعد في تصميمها عما قد يكون عرضة للاتقاء الجنسين أو اتصال بعضهم ببعض فينتج عنه ما لا تحمد عقباه.
وهذا فيما يقوله تطور عما كان عليه الناس في القرن السابع عشر وما قبله حين كان الناس لا يتحرجون في أحاديثهم وجلساتهم من الحديث عن الموضوعات الجنسية، أو تبادل النكات ذات الإيحاء الجنسي، وعدم التحرج في أحاديثهم عن الألفاظ الجنسية أو غيرها، فلم يكن للبعد الجنسي أدنى تأثير على حياتهم.
يقول فوكو: هذا القول السابق هو ما نشأنا عليه، وترسخ في أذهاننا، من خلال ما ذكره سابقاً من ملامح، وما ذكره العلماء أمثال فرويد الذي يلح على أن الإنسان عانى في القرون السابقة (القرون الثلاثة) مما سماه «الكبت» فلا يستطيع أن يعبر عن رغباته ومشاعره.
إلا أننا حين نتأمل الواقع (الكلام هنا لفوكو)، نجد أن «الجنس» كان في كل مكان، في التقارير الطبية أو الأمنية التي تكتب عن الحالات المعروضة أمامهم، في أحاديث القساوسة والرهبان في مواعظهم حين يحذرون من الوقوع في الخطيئة، ويقبحونها، وفي خلوات الاعتراف التي يعقدونها للمذنبين حيث تضاعفت الدعوة إلى جلسات الاعتراف، وفي أحاديث المعلمين وخطاباتهم للطلاب، وتحذيرهم مما يقربهم منه.
وفي نصائح المربين، والآباء والأمهات وهم يوجهون أبناءهم وبناتهم لطريقة الحديث أو الجلوس أو اللبس، حتى أصبح «الجنس» هو العامل الأكبر في تفكيرنا، وتوجيهه نحو وجهة معينة، وهو الحاضر الذي لا يغيب في وعينا يتدخل في أدق تفاصيل حياتنا. وأصبح موضوع «الجنس» هو الموضوع الأثير عند كل من يريد أن يظهر بمظهر الأدب، والوعظ، وهو الموضوع الأثير عند من يريد أن يتحدث عن فساد المجتمع أو تطوره، وهو الأثير عند الأطباء، ورجال الأمن، والقساوسة, وأصحاب المؤسسة الدينية، والمعلمين والمربين، والمجالس العدلية، والأدباء والشعراء، وهو يلقي بظلاله على المباني والغرف بحيث يكون عاملاً مهماً يحكم الهندسة العمرانية والإسكان، فيوجهها وجهة تمنع ما يمكن أن ينافي الاحتشام والمحافظة.
وهنا يطرح فوكو السؤال المفصلي المهم، أين «القمع الجنسي» و»الكبت» الذي يقال عنه، وأين الاحتشام والمحافظة من كل هذه الإيحاء الجنسية غير المباشرة، والاستجابة المباشرة لها؟
الحقيقة أن ما يقال عن القرون الثلاثة والصورة التي انعكست في أذهاننا عنها غير صحيحة، فالمقارنة بينها وبين القرون التي قبلها تثبت أنهم لم يكونوا محتشمين أكثر من قبل، وأن «الجنس» لم يكن منفياً ولا مطارداً، بقدر ما كان حاضراً مسيطراً.
حينما ننظر إلى هذه القضية نجد أن التاريخ المدون في الأصل يثبت حادثة تاريخية محددة، جاءت تفاصيلها في كتابات المؤرخين وأقوالهم، وفي التقارير الموروثة عن تلك الحقبة، إلا أن هذا الكتابات أثبتت حقيقة أخرى، وواقعة ثانية لم تكن مذكورة فيها، وليست هي الموضوع المقصود في الكتابة، فالكتابة بوصفها واقعة تاريخية حادثة أثبت أمراً آخر غير التي تتضمنها النصوص، ودلت عليها وربما تناقضها، وجاءت بخلاف ما تحكي عنها المدونات التاريخية سالفة الذكر، وهنا تأتي خطورة الكتابة أنها تصنع واقعاً تاريخياً قائماً بذاته، مستقلاً عن الحوادث والدهور، وربما تفضح ما تكنه سطور المؤرخين وكلماتهم، وتجعل الباب مفتوحاً لكتابة التاريخ من جديد.