عبد الله الماجد
منذ مجموعته القصصية الثالثة (دامسة 1998) وحتى مجموعته الأخيرة (هاتف - بدون تاريخ صدورها، أهداني المؤلف نسخة وأَرّخ إهداءه 2014). أصبح «محمد علوان» أكثر جرأة فنياً، وأصبح مالكاً شرعياً لأدواته الفنية ولغته, وهذا لا ينفي أنه قد فاجأنا في مجموعته الأولى: (الخبز والصمت 1977) بحماسته فنياً، وبجرأته في تناول موضوعاته. وإذا كان موضوع «الجوع والفقر» هو الأبرز - وهو موضوع إنساني عام - في مجموعة (الخبز والصمت) فإن «الموت» بوطأة هاجسه الإنساني، هو المتسيد في هذه المجموعة الأخيرة (هاتف) وهو لا يعالج موضوع «الموت» من منظور ميتافيزيقي صرف، وإنما كمعني إنساني، يترصد حياة الأهل والأصدقاء، والبسطاء من الناس على غير موعد, وينتزعهم من أحضان الحياة على حين غرّة. في قصة من أبدع قصص هذه المجموعة، ومن أبرزها فنياً، تُطعم «أم إبراهيم» في قصة «رائحة الهيل» من تعودوا على «نَفَسِها في الطبخ»، فقد وهبت حياتها لعملها ولابنها الوحيد، بعد أن فقدت زوجها، حيث غاب ولا أحد يعرف أين ذهب. يستخدم الكاتب أدواته التي أصبحت تطاوعه في الكتابة للتأثير في «المروي له» عن طريق إبراز العلاقة الإنسانية والأمومية بين الأم والابن، وبين من هم خارج هذه الدائرة الدافئة. في تعاملها معهم حتى أصبح عنوان هذا المؤثر في المعالجة الفنية: «الحب والموت» عَبر هذين القطبين. في الحياة البشرية الإنسانية، يتشكل جدل الحياة ومعناها. لم تكن العلاقة هي علاقة أم بابنها، بل وصلت إلى أعلى درجات الحب: «قررت أن أعشق والدتي», «أدخل إلى دفئها», «أعود إلى جنتها التي تمنحني الأمان». لكن الأمان، لم يكن دنيا وحياة بلا نهاية، لابد أن تتوقف الرحلة عند محطة لا يسمح للركاب بالعودة ثانية.
وها هو الراوي، يروي اللحظة الحرجة، التي وضعت حداً لحالة العشق الآني، وصادرت الأمان:
«داخله رعب يشعر به أول مرة. رائحة البيت أصبحت بلا رائحة. وصمت أخّاذ وحاد وبارد ملأ خياشيمه لأول مرة. تحسس جبينه, رفع رأسه, انقلب بجسده. إلى حيث جهة فراشها حيث جسدها تحت غطاء قديم. داهمه ضعف أربكه. لم يستطع الوقوف الوهن يسيطر عليه. زحف على يديه وركبتيه. متجهًا إلى فراش أمه. رفع الغطاء. فإذا بالجسد صلب وبارد مثل الثلج.
حاول البكاء. لكن البكاء استعصي عليه. حاول الضحك. صرخ بأعلى صوته. انهمر الجيران أمام الباب حيث الصراخ الذي لا يتوقف والكلمات التي لا تحمل أي معنى تصدر من إبراهيم. تملكت الجرأة واحدة من النساء. انسابت من خلال الباب الموارب إلى داخل البيت. إبراهيم يجأر بصوت لا يحمل البكاء ولا يحمل الضحك. صوت مقتول بائس ومنهزم. عادت المرأة إلى زحام الناس, وقالت بحزن مخيف: أم إبراهيم تطلبكم (الحل). (ص 59).
الرائحة (الروائح) هي محسوس مؤثر في صياغة أحداث هذه القصة، أصبح مشاركاً أصيلاً في صنع الحدث، عن طريق مؤثره، لارتباطه بأهم الحواس، التي تشكل أفعال الدافع لدى المخلوقات، التي يتميز عليها الإنسان بسيطرته على أفعال الدافع العقلي.
بين كل أربعة أسطر أو أكثر أو أقل؛ تأتي كلمة «الرائحة» في هذه القصة؛ والرائحة على هذا النحو، أصبحت مؤثرًا وفعلاً مركزياً، في مركبات الشعور والدافع الذي يصنع الحدث، ويؤثر في الفعل وردود الفعل.
وابتداء من عنوان القصة، تعمد الكاتب أن يجعل «الرائحة» تيمة مؤثرة في معالجة الحدث، وتنامي الشعور النفسي لدى الشخصيات الرئيسية في القصة. ويصادفنا هذا المغزى منذ السطور الأولى في القصة (والحديث هنا عن الأم):
«أعرف رائحة ثديها المليء بالحليب والحنان، ورائحة الهيل، أعرف، ها أنا هذا المخبول، الذي أدرك كل رائحة، أدخل هذه القرى عبر هذه الدكاكين. اتبع الرائحة..»
ولأنه يعرف هذه الرائحة التي تلازمت مع رائحة الهيل الدّالة عليه لتكرر عمل القهوة يومياً. ولها مؤثرها اليومي: «رائحة الهيل تغلق عليه كل الزوايا» فإنه لا يخطئ رائحة أمه:
«رائحة تغرق المكان. رائحة تدخلني إليها. رائحة تمنحني الدفء..»
وحينما بدأ ينتابه الخوف، بفقد أمه، شعور يشعر به أول مرة، فإن البيت يفقد رائحته، التي تبث فيه الحياة «رائحة البيت أصبحت بلا رائحة».
وعندما يُصبح فقدها يقيناً، فإن رائحتها، هي الباقية:
«بقايا من رائحتها تنبعث من ملابسها, وروائح الريحان والحناء والطيب, الذي كانت تدهن به مقدمة رأسها, تنبعث في أرجاء المكان. وفي علبة صغيرة وجد حبات الهيل.»
تعود كل يوم أن يعمل القهوة، التي كانت أمه تُعدها كل يوم بعناية فائقة، ويذهب إليها، وعند قبرها يشرب القهوة، ويصّب لها فنجاناً، يدلقه على قبرها، ويناديها: «اشربي أعرف أنك تعشقين القهوة، أعرف كيف تختارين البن اليماني أو الهرري، تعرفين رائحته وكأنك تتنشقين عطرًا». أصبحت القهوة المبهرة بالهيل، هي أحد أهم ما يربطه بها وبزيارتها كل يوم، تنعشه الرائحة فيتحرك دافع الرغبة والتعود للقائها، يتناقض شعوره وهاجسه النفسي، بين وجودها في المكان الذي كانت تشع فيه وتملأه بعبق روائحها، وبين افتقادها العيني، لكن الإحساس ودوافع الشعور النفسي الذاتي يُعلله بأنها مسافرة وسفرها لن يطول:
«يمه. أعترف لك الآن. لقد وضعت ملابسك في ذلك الصندوق الخشبي. انتظرت أسبوعا كاملاً عله يعيد لي رائحتك. نشرتها داخل غرفتي. نشرتها على الجدران.
مكثت وحيدًا. وحزينًا. لم أعد أشم رائحتك. هل أخذت كل شيء معك. ماذا بقى لي وأنا لا أعرف سواك. كيف يمكن أن... معذرة حبيبتي لم يعد في الدلة شيء من القهوة سوف أعود إليك. استودعك الله الذي لا تنام عينه.
أتدرين سيدة القلب، أتدرين يا مهوى الخاطر، ما الذي حدث بعد سفرك الذي لن يطول. أعرف أنه لن يطول، وأعرف أنك تبحثين لي عن عمل. وأعرف من نظراتك التي شغفت بها. وأعمتني». (ص 63).
في هذه القصة العذبة, الموجعة بهذا الشجن الإنساني, الذي يُبرز العلاقة بين أم وابنها الوحيد, ارتقت إلى أقصى ما تبلغه, فاتحد كل منهما في الآخر, وأصبحا جسدًا ونفسًا واحدًا, وحينما انفصل أحدهما, وغاب عن الحياة؛ لم يصدق هذا المتبقي الآخر, ويُغالب شعوره بين اليقين المر, وبين الشعور المتنامي الذي يسيطر على مناطق عذوبة الأمل والرجاء.
«أعرف أن سفرك لن يطول
بالله عليك عودي
هاأنا الآن أعزل إلا من دلتك المبهرة»
* * *
استدعاء صيغة «الهاتف»، في بداية قصة «هاتف»، على لسان الراوي، له ما يُبرره، فقد ظهرت كلمة الهاتف، في نهاية السرد كاسترجاع للاستدعاء، في بداية القصة؛ فأحكمت صياغتها الدائرية. لكن علينا توثيق العلاقة بين عدة ظواهر، عنوان القصة «هاتف» وهي غير مُعرفة، وغير مُضاف إليها. وهذه الكلمة تحتمل عدة معان: هاتف كما مقصود في القصة، وهاتف ما يمرُ بالذاكرة من وعي طارئ. وكلمة الهاتف مُعرفة دلت على هاتف مُعين، وهما في القصة هاتفان: هاتف خاص لأناس ممن رحلوا، من الأهل والأحباب، لا تزال أرقام هواتفهم في أماكنها بين أرقام الأحياء:
«لا يزال رقم والدي ورقم أخي وأرقام الأحباب، تحتل في مفكرة الهاتف مكانها، وبحبرها الذي لم يبهت حتى الآن».
وهاتف عام، أمام باب المقبرة، يمنحنا إيحاءات متنامية، حينما تصفح دليل الهاتف العام:
«لم أجد رقم أبي ورقم أخي، وأرقام الأحباب، الذين عبروا هذا الباب الحديدي المغلق.