د. عبدالحق عزوزي
ككل عام منذ سنة 2012، وفي الثامن عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول)، تحتفل اليونيسكو باليوم العالمي للغة العربية من خلال تنظيم مؤتمر في مقرها في باريس بالاشتراك مع المندوبية الدائمة للمملكة العربية السعودية لديها ومؤسسة الأمير سلطان بن عبد العزيز الخيرية التي تموّل برنامجاً لدعم اللغة العربية عبر المنظمة الدولية. وأهمية ما جاءت به هذا العام يتمثل في المحور الجامع الذي اندرجت تحته أبواب المؤتمر وهو «اللغة العربية والشباب». وبهذه المناسبة، أصدرت المندوبية السعودية الدائمة كتاباً بعنوان «اللغة العربية والشباب» باللغتين العربية والفرنسية، أشرف عليه المندوب السعودي والأخ العزيز الدكتور إبراهيم البلوي. وجاء الكتاب غنياً بالمساهمات التي شاركت فيها مجموعة من الباحثين المرموقين. وكان الملف الغالب فيها يدور حول جدلية اللغة والهوية، الذي استحوذ على عشر مساهمات بالعربية من أصل 15 مساهمة...
وأنا أكتب هذا الكلام، أتذكر افتتاح وزيرة خارجية النمسا، كارين كنايسل، خطابها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 سبتمبر/ أيلول 2018، بمقطع باللغة العربية. وقالت الوزيرة النمساوية بأنها تريد أن تلقي خطابها باللغة العربية، وتابعت قائلة «لماذا أفعل هذا؟ هذه لغة من ست لغات رسمية معتمدة في الأمم المتحدة». وأضافت: «درستها في مركز الأمم المتحدة في فيينا، وهي لغة مهمة وجميلة وجزء من الحضارة المهمة، ودرست في لبنان خلال سنوات الحرب، وكيف الناس يستمرون في الحياة رغم كل الظروف الصعبة وهذا سر الحياة».
هذا كلام جميل ويلخص كل ما يمكن أن يكتب عن ظاهرة العولمة والهوية واللغات الجميلة الحية، ونظريات العلاقات الدولية المعاصرة وعن واقع الحضارة. فهناك كتب عديدة ومدارس ضخمة وجامعات ومؤسسات مقتدرة في العالم الغربي تعنى بتدريس وتكوين مختصين في كيفية قراءة العلاقات الدولية؛ وهناك في العالم منظرون اشتهرت مؤلفاتهم ونظرياتهم على مر السنين؛ ومن بين هؤلاء المفكر الأمريكي جيمس روزنو الذي كان قد حذرنا بذكاء من مغبة الاضطرابات التي قد تعيشها العديد من مناطق العالم، كما طالب بالابتعاد عن النظريات الشبيهة بنظرية هانتغتون الذي يدعي صياغة العالم في خرائط. فالعالم الحالي ليس أحادي القطب وليس ثنائي القطبين ولا متعدد الأقطاب وليس عالما شموليا بشكل تام ولا مجزءا إلى أبعد حد: إنه عالم، كما يكتب أستاذ العلاقات الدولية فريديرك شاريون، غير منظم في شكل حضارات وتكونه حضارة موحدة...
فاللغة العربية في هذا المضمار هي لغة تواصل وحضارة تغتني بغيرها من اللغات كما أنها تغني لغات وثقافات العالم، ولعل افتتاح وزيرة خارجية النمسا، كارين كنايسل، خطابها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باللغة العربية أفضل مثال على ذلك. فللغة العربية عوامل قوة كثيرة مكنتها من البقاء بوجه التحديات التي عصفت بالبلاد الإسلامية من احتلالات متتالية من غير الناطقين بها منذ القرن السابع الهجري وانتهاء بالعصر الحديث، وشكلت هذه العوامل أنساقا حية مدتها بالحياة والبقاء والثبات مثل: الاشتقاق، والمجاز، والتعريب، والإعراب. وتطور اللغات مرتبط بتطور الناطقين بها، لذا على الإنسان العربي تطوير ذاته أولا لتتطور لغته حتى يفكر بعد ذلك كيف يستثمرها لمنفعته ماديا ومعنويا. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الاختراق الثقافي لا يكون له أية قوة على اللغة إذا توفرت على المضادات أو لنقل المناعة وعندما تصبح ثقافة جماهيرية، أي عندما تجد الجميع يستهلكها. ولا غرو أن استهلاك الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة له علاقة بالعرض والطلب وبالسوق وبالصناعة الثقافية، بحيث أضحت للثقافة قيمة تبادلية..
إن اللغة العربية هي لغة حية ودولية، وأداة تواصل ديني لنحو مليار ونصف مليار من المسلمين، أزيد من ثلاثمائة مليون عربي هي لغتهم الأصلية والرسمية. وحسب بعض الإحصاءات العالمية، فإنها تسجل رابع لغة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها، بعد الصينية، والإنجليزية والإسبانية، وفي إحصاءات أخرى فإن العربية تحتل الصف الثالث... ثم إن اللغة العربية اليوم تشهد انتشارا كبيرا غير مسبوق، ما يبعث على التفاؤل بشأنها واعتبارها بخير. إلا أنها رغم ذلك تعاني مشكلات، وتواجه تحديات ذاتية وخارجية. وهو واقع يعكس الأزمة التي تجتازها المجتمعات العربية، ولا سبيل لتشخيص ذلك الواقع إلا بالنظر إلى هذه الأزمة، لأن معاناة اللغة من معاناة أهلها، وأنها ليست مجرد أداة للتعليم والإرادة، ولكنها الآلية التي تحرك المجتمع عبر الفكر والعلاقات التواصلية المختلفة.