أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أرسلتُ لأسرة عبدالله الشهيل رحمه الله تعالى تعزية في فقيد الجميع، وقد أفادوني بوصول التعزية، ودعوا لي بخير جزاهم الله خيراً؛ ومما جاء في رثائي: (أرفع إلى سعادتكم باسمي، وباسم الزملاإ في مجلة الدرعية، ودار ابن حزم: مواساتي وعزائي في وفاة أخيكم عبدالله بن محمد الشهيل.. أسألُ الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يدخله فسيح جناته.. لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيئ عنده إلى أجل مسمى.. وأرواحنا ملكُ بارئها جل جلالُه.. أسأل الله أن يلهمكم الصبر والسلوان، ويعظم أجركم، ويحسن عزاأكم، ويجعلكم من الصابرين المُحتسبين بما آتاكم الله من الإيمان والعلم، وأن يبارك لكم في عمركم وعملكم وأهلكم وذريتكم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.. وأبدي لإخواني الكرام أن مصيبتي تقرُب من مصابكم؛ لأنه رحمه الله تعالى رفيقُ دربي في مرافقة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز رحمهم الله تعالى في حله، وترحاله، ورفيق دربي لما كنتُ مديرا لمجلة التوباد، ورفيقُ دربي لما كنت مديرا للشؤون الثقافية بجمعية الثقافة والفنون، وآخر المشوار لما كنت بوزارة الشؤون البلدية والقروية مديراً عاماً للإدارة القانونية.. أسأل الله جلت قدرته أن يجمعنا به في دار كرامته، وأسأل الله إن كان مُقصرا أن يتجاوز عنه؛ فكلنا ذلك الرجُل، وإن كان مُحسناً أن يضاعف حسناته، وكلُنا على الأثر؛ فنسأل الله حسن الخاتمة، وتقبلوا سعادتكم عاطر تحياتنا جميعاً).
قال أبوعبدالرحمن: وفقدي هذا الزميل الكريم عفا الله عنه: حرك أشجاني بـ(صلوات قلب ) التي مرت في حياتي خلال مراحلها بين الخوف والرجاء؛ فقلت في بعض مما قلت: إلهي يا أكرم الأكرمين لقد ابتهلتُ إليك وأنا أُحسُ دبيب خُطاي في هذه الفانية.. لا أدري كم أبقيتُ من فضلة هذا العمر، ولعل ما بقي إن شاء الله أكثرُ وأزكى مما مضى، ولكنني أُدركُ أنني أستقبل قبلتك بغضون يُحشرج فيها فحيحُ السنين؛ ولقد حزرتها بأربعة عقود وزيادة(؛ والآن تجاوزتُ العقد الثامن بخمس سنوات)، ولو استسلمتُ لمخاوف الشُعيرات البيضاإ المقموعة بالحناإ لقلت: إنها تعكس الهُنيدة، ولا مطمع لأبناإ الستين وراأ الهنيدة؛ والهنيدةُ مئةُ عام؛ ولو استسلمتُ لما يُشجيني من تقوس المرفق، وتشظي الرُكبة: لقلت: (قربتُ إلى الثُمالة؛ فما أرى هذه السنين في صخب الحياة إلا جريالا يُسلمُ إلى ثُمالة أُخرى.. حسبي حسبي ما مضى من العمر.. إنني أرى فيهن الكفاية لاستقامة الأود، والتلفُع بالروحانية التي تُبارك العمر وتُزكيه، وحسبي أنني تجاوزتُ الأشد، وحسبي أن من أصحاب الأشُد عبدُك الصالح (أبوحنيفة) رحمه الله تعالى؛ فإنه كان يستحيي أن يحجر على ابن خمسة وعشرين عاماً وإن كان طفلاً كبيراً، وحسبي ياربي أنك أعذرت إلى صاحبها إن هو ظل على صبوته.. حسبي حسبي أن عقلي المُفعم ببراهين وجودك وقدرتك وعنايتك: لا يكفُ عن عذل هذه القلب في غلوائه.. على أن القلوب تشيب وإن حشرجت فيها السنينُ، وتقوس الظهر.. إلهي يشفع لهذا القلب: إذ يفيءُ إلى رحابك: أنه لم ينقطع عن عبادتك حتى في لحظات جنوحه؛ لأنه يستشعر مقامك ويخافُه؛ فلا يصحو إلا على وخز وألم وانكسار.. وقد علمتُ من دينك أن دموع العاصين التائبين أشرفُ موقف نتحرى فيه نفحتك، ونستمطر به رحمتك.. يشفع لهذا القلب إذ يناجيك إن جرحتُه الآهات، وابتلعته اللذات: أنه مؤمن؛ وهو على ثقة بأنك لن تُخلده في النار حيث لم تخطر به لُحيظةُ جحد أو شك، وما دام فيه أكثر من حبة خرل من إيمان؛ كيف وهو المفعم إيمانا بك على الرغم من معصيته وغلوائه؟!.. إنها ضمانة لن تخيس؛ لأن وعدك الحق.. أعلمُ يا إلهي أنك لن تخلد المؤمنين العاصين في النار، ولكنني أعلم أيضا أنك قد تُعذب المؤمن العاصي عذابا قد يبلغ عاما أو عامين أو ما أنت به عليم، وأنت القائلُ جل جلالك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَهِ إِنَ الَهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعًا إِنَهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَحِيمُ } (53) سورة الزمر، فأنى لمخلوق مثلي أن يتحمل عذابك طرفة عين؛ فما جلد على النار بجليد.. وأنى لمخلوق مثلي أن يتحمل وحشة القبر وضغطته وعذابه؛ وإنها لتُخيفنا الأشباح في الظلام في هذه الفانية.. ولئن صحت العزيمةُ مني الآن بإقلاع من الذنب، وعزيمة على عدم العودة إليه، وندم على ما فات منه: فلا أضمن أنني أفي بذلك، ولا أضمن أنني أسابق بخيرات تُبدد ما سبق لهذا القلب من غواية طالما أن الحسنات يُذهبن السيئات، وأن الحسنة بعشر أمثالها إلى مئة ضعف.. إلى ما شئت من المضاعفة مع أنك يا أرحم الراحمين تعفو عن كثير؛ لأن صلوات هذا القلب وتيقُظاته في حساب عمري كالأفاويق بين إدرار الناقة.. رُحماك رُحماك يا مُقلب القلوب بفيئة سريعة؛ وثبات على العزيمة، وبرحمة منك، وقبول يغمر عملي ويُبدد معصيتي.. ولا أنس يا ربي آثار ألطافك، فلولاك ما اهتدينا.. إننا نتوب في اليوم ألف مرة، ونعصي ألف مرة؛ فتوباتنا في كل لحظة تُعذبُ قلوبنا، ومعصيتُنا في كل مرة لا تُترجم نوايانا، (قال أبوعبدالرحمن: بينتُ في غير هذا الموضع صحة نوايا، وأن النيات للقلة).. إلهي إن المؤمن لا يكره لقاأك، ولكن القلب كلما خايل له شبح الموت بمرض وهمي تمزق هلعا من خوف اللقاإ، ولو قلت معاصينا لهانت علينا نفوسُنا.. إلهي امنحني فضلة من العمر تُبددُ مخاوفي من سالفته، ولا تأخذني إليك إلا وأنا مشتاق للقائك، وأعذني من عذاب القبر ووحشته، ومن خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأضمن بذلك السلامة من أطباق نيرانك؛ فإنك تعلم أن عبدك من أضعف جندك في هذه الفانية.. وامنحني من لذة خُلدك ما يُمتعني بلذة النظر إلى وجهك الكريم؛ فإن ذلك يوم التغابن، وأنت تعلم أن عبدك الضعيف عاجز عن تحمل الغبن في أعراض الدنيا.. إلهي إن من لطفك بي أن برأتني في مدينة بين جيل من العوام الصالحين يخفُون إلى بيوت عبادتك، ويُحيون مواسم نفحاتك، وكان عبدك الضعيف لبنة في صُفوفهم على علاته؛ وذلك بمسجد الحُسيني الذي يقوم أخوالي وأعمامي بسدانته في شقراأ عمرها الله بالإيمان وصدق القول والعمل؛ فما يدريني لعلها غشيتني رحمتُك لهم وأنا في بداية الحلم، وفي أول أُويقات التكليف؛ فما كان يومها ثمة أهواأ تغمس قلوبنا، ولا فلسفات تلوث عقولنا.. ولقد مر بي برهة من الدهر وأنا أقول: (أحمد الله أنني لم أرتكب ذلك الذنب).. ثم صرت أقول: (لئن ارتكبت كيت وكيت،أنا لم أرتكب كيت وكيت).
قال أبو عبدالرحمن: أرجو من إخواني وأحبائي إذا وُسدتُ في قبري: ألا يجعلوا تعزية أهلي وأقاربي نُزهة أدبية تستعرض ما يرون أنه من إبداعي الفكري والأدبي والعاطفي؛ بل أرجو أن يدعون لي، ويشيعوني في قبري، ويصلون علي في المسجد ويدعون لي في المقبرة، ولا يمدحونني ألبتة؛ فيا ألله اجعلني خيراً مما يعلمون، واغفر لي ما لا يعلمون؛ وإنما عليهم جزاهم الله خيراً أن يقولوا: اللهم اغفر لمحمد بن عمر ابن عقيل ذنوبه، وبارك له في حسناته، وتجاوز عن سيئاته، ولا نعلم عنه إلا الخير، ومساعدة المحتاجين؛ فيقولُ الربُ سبحانه وتعالى، أو ملائكتُه عليهم سلام الله وبركاتُه: (وجبت) أي الجنةُ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثنيتُم عليه خيرا فقلت: وجبت.. وأثنيتم على الآخر شرا فقلتُ وجبت.. أي النار أعاذنا الله منها، ورحم الله والديكم لا تجعلوا ما بدر مني من طفرات أدبية أو فكرية أو عاطفية حجة لكم في التجاوز، وأرجو ألا تكون الأيامُ الثلاثة من يوم وفاتي أيام عيد وذبائح؛ فخير من ذلك الدعاأُ لا غير.. لا إله إلا أنت يا ربي سبحانك إني كنت من الظالمين، لئن لم يغفر لنا ربنا ويرحمنا لنكونن من الخاسرين، الحمد لله بدأ وعوداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين؛ وإلى لقاإ في السبت القادم مع هذا الشجن إن شاء الله تعالى، والله المستعان.