د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كما الهُوية المكانية التي تناولها مقال الخميس الماضي: (الهوية المفقودة) يجيءُ الزمن مُدلًا بنمط هُويةٍ موازٍ من حيث المقابلةُ الجغرافية- التأريخية؛ حيث ينتمي الواحد فينا إلى زمنٍ ويعيش في زمن، وقد يرحل عن الدنيا في زمنٍ آخر، وتبقى الأفضليةُ -مثلما اعتاد الناس أو تنمطُّوا على اعتياده- للزمن الأسبق فالسابق، متغافلين أو غافلين عن أن الأوقات لا تتفاضل بينها بإطارٍ محدود أو حتى بصورة شمولية، ولعل هذا هو المقصود بالخيرية الواردة في الأثر الكريم، وهو ما أكده الشيخ الألباني حين صحح الحديث فأثبت رواية: «خير الناس قرني» وليس «خير القرون»، وهو ما يعني تفاضل الناس لا تفاضل الأزمنة.
** وحين يشدُّنا الحنين إلى أمسٍ عرفناه فألفناه أو أمسٍ قراناه فقدّرناه فإنما هو المللُ من زمنٍ عشناه أو الأملُ في زمنٍ نعيشه، وربما هو ترف الأماني، وإلا فلا فرق بين زمنٍ وغيره إلا بالناس والإيناس، وجمعَنا بأصدقائنا الإذاعيين القدامى مجلس كريم، وعلى الرغم من إجماعنا على تردي الحال الإعلامية المسموعة والمرئية من حيث مهنية الأداء فإن التفكير بعودة عقارب الساعة إلى الوراء طرفةٌ هازئةٌ تحكي ما لن يكون أو لا يمكن أن يؤوب، والأمر نفسه مع التجارب والخبرات المتشابهة والمتماثلة؛ فكلٌّ يُهوِّمُ في رحلته وتجربته ظانًا أنه ونظراءَه قد قدَّموا الأجمل «مدَّعين وصلًا بليلى..»، ووعينا -في أدبياتنا- أن لكل زمنٍ دولةً ورجالاً.
** هذه حكاية أولى، أما الثانية فمرتبطة بزمن الفرد نفسه؛ فهل كان أفضلَ في صباه عن شبابه؟ وماذا عن كهولته وشيخوخته؟ وإذ يأسره الشوق إلى فتوّته وقت عجزه، وحيويتِه زمن هرمه فإنما شكا الوهنَ لا الزمن تأسيًا بنظرية المتنبي:
وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَل
لَ حَياةً وَإِنَّما الضَعفَ مَلّا
آلَةُ العَيشِ صِحَّةٌ وَشَبابٌ
فَإِذا وَلَّيا عَنِ المَرءِ وَلّى
** لا شأن للعمر المنصرم بالشكوى، ولو أجرى واحدُنا مقارنةً بين أوضاعه بمجملها في مراحله أجمعِها لوجد أن حاضره يفوق ماضيَه بعامّهِ ومفصّله عدا «الرقم»؛ فالتسعون غيرُ العشرين، ولا حيلة فيه كما لا تحايل عليه بتصغيرٍ أو تجميل.
** أما الحكاية الأخيرة فتتصل بالانتماء لأزمنةٍ سمتُها الأدلجة الدينية أو السياسية، وهو انتماءٌ يمنح هُويةً مؤقتةً غيرَ ذات قيمةٍ لمن يَعدُّ نفسه جزءًا منها كما في ذوي المدّ القوميِّ أو الصحوي أو ما قبلهما وما تلاهما؛ فهذه متغيراتٌ لا يُتكأُ عليها في تحديد هويةٍ ونقضِها أو رسم شخصية وطمسها.
** والمؤدى أن الهوية الفكرية هي الهُوية الحرة التي لا ترتبط بزمانٍ ولا مكان ولا إنسان، ويبقى انتماء المرء لدينه ووطنه وناسه غيرَ قابل للمزايدة أو ميدانًا للجدل غيرِ المنتهي بل غير المنتمي.
** الهُوية حدٌ لا لحد.