د.علي القرني
لدينا مفهوم خاطئ يتم تداوله كثيرًا خلال هذه الفترة، وهو أن الورقي (صحيفة كتاب) قد ولى عصره ولم يعد مطلوبًا.. وهذه أسميها نظرية الإزاحة التي يتم تداولها أحيانًا، فنحن وغيرنا من الشعوب الأخرى نؤمن بهكذا نظرية.. وليس جديدًا أن يتم تداول هذه النظرية في فترات وحقب زمنية معينة، فمثلا عندما دخلت الإذاعة إلى الناس ظن الناس أن الإذاعة ستوقف الصحف وأن زمن الصحف قد ولى وانتهى.. وعندما ظهر التلفزيون ظن الناس -طبقا لنظرية الإزاحة- أن عهد الإذاعة قد ولى.. والآن عندما ظهر الإنترنت ظن الناس أن التلفزيون قد انتهى، وعندما ظهرت الصحف الإلكترونية ظن الناس أن عهد الصحف الورقية قد ولى..
وفي كل الحالات السابقة لم يكتب التاريخ أن وسيلة إعلامية قد أزاحت وسيلة أخرى، بل ما يحدث هو عملية معايشة للواقع الجديد، وتكيف مع مستجدات التقنية والاتصال، وهذا ما حدث مع الإذاعة عند خروج التلفزيون، وما حدث مع التلفزيون عند ظهور الإنترنت، ومع الصحافة الورقية عند ظهور الصحافة الإلكترونية.. ولو ظهر شيء جديد غير الإنترنت فسيبقى الإنترنت كذلك ولن تمحيه وسيلة جديدة..
الورقي هو مرتبط بالتعليم والاقتصاد والتجارة والإعلام، فهو وسيلة تستلزم تواجدها عن هكذا وظائف، وسيظل الناس ليس في بلادنا فقط بل في كثير من بلدان العالم تستنشق الورق يوميًّا من خلال صحف أو تقارير أو كتب، وستظل معارض الكتب ذات شعبية كبيرة، وستظل الصحف طقوس الفرد اليومية التي لا ينفك عنها.. وستظل مؤسساتنا التجارية تزخر بالورق سندات وبروشورات وتقارير وغير ذلك، وسيظل المستهلك يبحث عن بروشورات التسوق عند دخوله للسوبرماركات والمحلات التجارية. من يقول إن المطابع انتهى دورها فهو يؤمن بنظرية الإزاحة التي لم يكتب لها التاريخ تحققًا، ولم يثبتها الواقع العالمي.
وكما قيل الوقت هو الذي سيحسم the time will tell فالوقت هو الذي سيحسم هكذا مفاهيم عن وسائل الإعلام، ففيما مضى أخبرنا الزمن أن نظرية الإزاحة ليست ممكنة في تداخل وسائل الإعلام، وأن بديل هذه النظرية هي نظرية المعايشة والتكيف التي تفرض على الوسيلة السابقة أن تعيد حساباتها بطريقة تضعها على خط المنافسة من جديد.. بمعنى أن الوسيلة الجديد لن تتمكن من القضاء على الوسيلة السابقة أبدًا.. فهذا ديدن وسائل الإعلام في التاريخ البشري..
ودور النشر العالمية، بما فيه دور نشر الجامعات لا تزال تزخر بمطبوعاتها الورقية وتباهي بها جامعات ودور نشر أخرى، فالكتاب -الورقي- سيكون شامخًا مع الكتاب الإلكتروني، وبكل تأكيد لن تتوقف صناعات المطابع في ألمانيا أو اليابان من الاستمرار في إنتاج ماكنات طباعة ويب او سبريد شيت لأن العالم لا يزال يحتاجها لتلبية احتياجاته الورقية من صحف وكتب وغيرها من المستلزمات الورقية. كما أن المدارس والجامعات في العالم تبني مناهجها وخططها على الكتاب الورقي بالدرجة الأولى، ثم تليه مخرجات إلكترونية أخرى.
إن الإذاعة لم تنه الصحافة، والتلفزيون لم ينه الإذاعة، والإنترنت لم ينه وسائل الإعلام التقليدية، هكذا هي معادلة وسائل الإعلام خلال القرون الماضية، فكل وسيلة ستبقى لجمهورها، بخصوصيتها التي تتفرد بها عن الوسيلة التي تلتها، والوسائل الأخرى. وهكذا هي حياة الإعلام، فمن أرادها فليبق مع التاريخ، ومن لم يردها فليكن خارج التاريخ. والله أعلم..