د. جاسر الحربش
نسيت اسم الطفلة السورية التي شاهدت في إحدى الفضائيات قصتها مع الفرار بلا شيء واللجوء من أجل البقاء فقط إلى وطن آخر، وما يتعرض له الأطفال العرب من أهوال. أظن اسمها كان هبة، هربت مع والدتها وإخوتها من سوريا إلى بلد عربي مجاور فتكدسوا مع اللاجئين في مخيم على حدود الدولتين. الأب مات في الحرب السورية والأم بها إعاقة جسدية تمنعها من العمل، وعلى الأطفال محاولة كسب قوت الأسرة بما يتيسر. الطفلة هبة عمرها ثماني سنوات وهي الأصغر بين الإخوة، ومطلوب منها أيضاً أن تساهم في إعالة الأسرة فتحولت إلى عاملة يدوية مثل الكبار في مخيم اللاجئين. في ساعات الفجر الأولى تنهض وتغسل وجهها الصغير ويديها بماء المخيم البارد وتتناول قطعة خبز وربما كأس حليب دافئ وتقبل أمها، ثم تركب مع عمال المخيم شاحنة تقلهم إلى السوق المجاور حيث ينتظر كل واحد من يكلفه بعمل ما في ورشة أو بيت أو مزرعة حتى غياب الشمس مقابل مبلغ صغير من النقود. هبة صاحبة الثماني سنوات تستطيع الكنس والغسيل ونقل بعض الأحمال من مكان لآخر على كتفيها النحيلتين. قد يمر اليوم كله بدون وجبة طعام، إلا أن تصدق عليها صاحب العمل حسب كرمه ببعض الأكل. في آخر النهار تكون قسمات وجهها قد تغضنت واسودت من لفح الهواء واحمرت عيناها وأنفها يسيل فلا تستطيع مسحه بقطعة منديل ورقي لا تجده. الطفلة هبة ذات الثماني سنوات تتحول مع غروب كل شمس إلى عجوز حفر الإرهاق في وجهها ويديها وقدميها خطوط الشقاء الأسود.
مع غياب الشمس تعود هبة في الشاحنة مع العمال إلى المخيم لتعانق والدتها وإخوتها وتغسل وجهها مرة أخرى بماء المخيم البارد، ثم تتقابل الأسرة على ما استطاعت الأم إعداده كوجبة دافئة هي كل قوت اليوم الحقيقي، ثم تنام مع إخوتها على الأرض حتى فجر اليوم التالي، وهكذا تستمر حياة الأطفال الهاربين من الدمار في ديارهم إلى الشقاء على الحدود.
أقول لكم إنني بكيت بداخلي وأنا أتابع قصة الطفلة هبة، ولم أبك دموعاً حارة سيالة فقد جفت الدموع، لكن شيئاً ما مثل الجسم الغريب أو النحيب المكبوت وقف في حلقي وكان كتلة متشابكة خشنة من الغصة الحزن وقلة الحيلة والإحساس بالذنب. لم أستطع قول شيء سوى أن أتمتم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم رد هبة وأهلها إلى ديارهم واحم أطفالنا يا رب من مواجهة نفس المصير.
وبالنسبة للطفلة هبة أرجو الله تعالى أن يجعل لها من اسمها أوفر نصيب ومن كفاحها أفضل المكافآت، فتعود إلى ديارها وتتعلم وتتخرج وتنجح وتصبح مثالاً للكفاح الصامت المتوج بالنجاح المستحق.