عماد المديفر
إن ما يقارب من 65 في المائة من حجم التجارة الصينية، و60 في المائة من احتياجات أوروبا من الطاقة، و25 في المائة من احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية من الطاقة، وما يعادل 15 في المائة من حجم التجارة العالمية ككل، يمر عبر البحر الأحمر. وتعد المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية الدولتين الأكبر في الإقليم، وبالتالي يقع على عاتقيهما المسؤولية الأكبر.. إِذ إن مجموع سواحل المملكة العربية السعودية -بما فيها سواحل الجزر- على البحر الأحمر، تزيد عن (2400) كلم، كما تعمل المملكة على إقامة مشاريع استثمارية عالمية حيوية كبرى على البحر، كما هو مشروع (نيوم)، ومشروع (البحر الأحمر)، وجسر الملك سلمان الذي يربط المملكة بمصر، وبالمنطقة الحرة الصناعية المصرية المزمعة، وغيرها من المشاريع الصناعية والتجارية والتنموية الكبرى وذات الآثار الاقتصادية الضخمة، هذا عدا أن البحر الأحمر ممر دولي حيوي مهم يمس بشكل مباشر مصالحنا العليا، بما في ذلك الصادرات والواردات السعودية، وذات الأمر ينطبق على جمهورية مصر العربية، التي تعتمد فيها حركة الملاحة عبر قناة السويس المصرية، بشكل جذري ومباشر، على أمن وسلامة البحر الأحمر بطوله وعرضه، من مدخله في الجنوب، عند مضيق باب المندب، وصولاً للقناة، وكذلك الحال للدول المشاطئة الأخرى، التي يعد البحر الأحمر وخليج عدن منفذها البحري الوحيد.
وتستشعر الدول المشاطئة على البحر الأحمر وخليج عدن (الأردن، السودان، إريتريا، جيبوتي، اليمن، الصومال، السعودية، مصر) بالإضافة إلى إثيوبيا؛ أن الحاجة اليوم أضحت أكثر إلحاحاً لتحقيق تكامل وتعاون فيما بينها، يسهم ليس فقط في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية المشتركة؛ بل تعزيزها، من خلال التكامل والعمل المشترك، لاسيما أن انتهاء الحرب الباردة، أنتج نوعاً ما -بحسب محللين- فراغاً في الإقليم، كان من أثره -وإن بشكل غير مباشر- نشوب نزاعات حدودية بين دول القرن الإفريقي بعضها البعض، كما ظهرت بوضوح مشكلة القرصنة قبالة السواحل الصومالية، هذا عدا عن تنامي ظاهرة الإرهاب كما هي حركة الشباب (الإسلامي).. الأمر الذي دفع باتجاه ضرورة خلق كيان تحالفي يجمع هذه الدول مجتمعة، ويهدف إلى تحقيق التعاون والتكامل في المجالات كافة، اقتصادية وسياسية وثقافية وأمنية ودفاعية على السواء، وعليه فقد مهدت المملكة فعلياً لذلك، حين عملت مع الأشقاء في إثيوبيا وإريتريا على تحقيق اتفاقية السلام بينهما، وكذلك الحال فيما يخص جيبوتي وإريتريا، والوضع في الصومال، هذا عدا العمل على تطهير اليمن من الميليشيات الإرهابية المسلحة كما هي القاعدة وجماعات ما يسمى بـ(أنصار الله)، وما تحقق من نجاحات بهذا الصدد، ليس آخرها اتفاق (الحديدة) الذي تم في مملكة السويد بإشراف الأمم المتحدة.
إن أمن البحر الأحمر وخليج عدن جزء لا يتجزأ من أمن المملكة العربية السعودية، وأمن الدول الشقيقة المشاركة لنا في شواطئ البحر الأحمر وخليج عدن، وأن أي خلل في أمن البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب سيمس مباشرة المصالح العليا والحيوية للمملكة العربية السعودية وشركائها في الإقليم.
وإن كنا قد تنبهنا مبكراً للخطر القادم من الشرق، من ناحية الخليج العربي، فأنشأنا مجلس التعاون لدول الخليج العربية بمبادرة استشرافية واعية من حكماء الخليج العربي من قادة دول مجلس التعاون مطلع الثمانينيات الميلادية، وبنينا قوات «درع الجزيرة» المشتركة، كون المهدد الوجودي لدول الخليج بدا ظاهراً للعيان مع استحكام قبضة الثورة الإرهابية (التي تصف نفسها بالإسلامية) على مقاليد الحكم في إيران، وظهور أطماعها التوسعية للعلن، فإن الخطر القادم من ناحية البحر الأحمر لم يكن حينها ليشكل تهديداً كبيراً بمستوى ذلك المطل برأسه على الخليج العربي.. بيد أن الأوضاع في إقليم البحر الأحمر اليوم تغيرت عما كان عليه الحال في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية؛ إِذ برزت تحركات مريبة، ووجود عسكري غير مبرر لدول شرق أوسطية لم يكن لها في السنوات العشرين الماضية أي وجود في البحر الأحمر، وليس لها في الواقع مصالح مباشرة حقيقية في الإقليم، إلا أن تكون عاملاً يستهدف في وقت من الأوقات زعزعة الاستقرار، وتهديد أمن وسلامة دول الإقليم، ومن هنا فإن هذا المتغير الذي طرأ، أوجد حاجة ملحة لاستجابة دول الإقليم، للمحافظة على مصالحها الاستراتيجية والحيوية والعليا، واستشرافاً لما قد تشكله تلك التحركات، وذلك الوجود المريب؛ من خطر، والذي ما كان ليحدث لولا أن وجد فراغاً استطاعت هذه الدولة أو تلك، استغلاله، ولتضع لها موطئ قدم ليست مدنية فقط؛ بل عسكرية!
إن إنشاء كيان يجمع دول البحر الأحمر وخليج عدن، يستهدف تعزيز التعاون والتنسيق في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية والتجارة، والتبادل الثقافي، والتعاون العلمي، بالإضافة إلى التعاون والتنسيق الأمني، والدفاعي، والتدريب العسكري البحري والبري المشترك، وحرب الإرهاب، ومكافحة القرصنة البحرية، والمحافظة على البيئة، وإيقاف الصيد الجائر وغير المصرح به، والعمل بفاعلية على حل النزاعات الحدودية بين دول الإقليم، لاسيما في القرن الأفريقي (إريتريا، جيبوتي، الصومال، وإثيوبيا)؛ أضحى اليوم أكثر إلحاحاً، ونجاحه في تحقيق أهدافه هو في الواقع مصلحة مشتركة عليا لدول الإقليم كافة، الأمر الذي دفع المحللين للقول بأن «حتمية نجاحه متحققة»، وإن كانت إريتريا وإثيوبيا اليوم لم تنضما لهذا الكيان، غير أنهما عملياً موجودتان بالفعل عبر التعاون الثنائي المباشر فيما بينهما وبين دول الكيان المزمع إنشاؤه، ولربما ينضمان مستقبلاً له.
إن تحقيق هذا الكيان لهو أنموذج من نماذج نجاح الدبلوماسية البحرية السعودية (Maritime Diplomacy)، وإتمام نجاحه أمر حيوي، ينعكس أثره بشكل ملموس على دول وشعوب المنطقة، ويقطع الطريق على أي قوىً خارجية شريرة، تضمر نوايا خبيثة، وتراودها أحلام شيطانية، أو تخطط للعب دور سلبي في إقليم البحر الأحمر وخليج عدن. والخطوة اللاحقة المهمة الآن أيضاً هي زيادة القواعد العسكرية البحرية والجوية السعودية على سواحل المملكة وجزرها في البحر الأحمر، وتطوير الأسطول البحري، وزيادة التدريبات البحرية المشتركة مع دول الإقليم، وتوسيعها.
إلى اللقاء.