فوزية الجار الله
كنا ثلاثاً.. الحب والأمل والفرح، رابعنا، خامسنا، سادسنا..
ركضنا خلف القطار الأخير في لحظاته الهاربة، ضحكنا على صديقتنا الأخيرة طويلاً فبعد قفزتها البهلوانية اللاهثة انغلق الباب، فقط ثانيتان من الزمن كانت هي الفرق الذي كسبته لحسن حظها، لكن لو لم توفّق فسوف ننزل مباشرة لنشاركها المصير، فينا ما يشبه التضامن غير المعلن على الوقوف صفاً واحداً في السراء والضراء..!
ما زال صدى الإعلان يتردد في سمعي، لم يكن واضحاً تماماً ربما بسبب ركضنا وحالة التوتر التي انتابتنا، النداء الأخير لقطار رقم (9) من محطة كينغز كروس إلى هتفيلد (كينغز كروس: محطة القطار الرئيسية في لندن، أما هتفيلد فهي بلدة جميلة وادعة تبعد نحو عشرين دقيقة من مدينة لندن يوجد بها جامعة ومرافق حكومية وتحفها بعض الغابات والواحات..
كنت قد أغمضت عيني في محاول للاسترخاء بعد هذا التعب والتوتر، فنحن في مساء يوم الأحد، نهاية العطلة الأسبوعية، وفي هذا اليوم غالباً يخف فيه عدد القطارات وأحياناً يحدث بعض المفاجآت غير المتوقعة، وفي الوقت ذاته تحتشد القطارات بالركاب حالهم يتفاوت بين أمرين، إما متعبون مرهقون، أمضوا إجازتهم الأسبوعية بالسهر واللهو وآخرون استمتعوا بقسط كاف من الراحة ولا يزالوا في قمة انتعاشهم، فيما يبدو هذا الشاب الصغير من الصنف الأول المتعب، بدت ملامحه جميلة وقد استغرق في نوم عميق بحيث لا يعي ما حوله، بدأ رأسه في الاهتزاز مع القطار، فتحت عيني على صديقتي في المقعدين المقابلين لمقعدي وقد استرخت إحداهما على كتف الأخرى وهما تهمسان وتضحكان، أشرت إليهما: هل نوقظ هذا الشاب؟ أخشى أن يصل القطار إلى مقره وهو مستغرق في النوم، أجابت إحداهما هامسة: لا شأن لنا به، وما يدرينا، مؤكد أنه يعلم موعده وإلا لما استسلم للنوم هكذا! أصبحنا نرقب الوضع كلما توقف القطار عند إحدى المحطات تحرك قليلاً، كأنما أحس بتوقف القطار، نترقب استيقاظه لكنه لا يفعل بل يعود إلى النوم، على المقعد المقابل له كان ثمة رجل بالغ قد جاوز الخمسن من عمره، كان هادئاً صامتاً، فجأة وقفت إحدى الصديقتين المقابلتين وأخذت موقعها إلى جواري، نظرت، تبصّرت، همست: ملامح الاثنين متشابهة، الرجل البالغ والشاب الصغير، نفس ملامح الشفتين، رأيت صديقتنا الثالثة وقد وضعت كلتا يديها على فمها لكتم وإخفاء ضحكتها، ياللذكاء، يبدو أنك لن تنامي الليلة لو لم تكتشفي هذه المعلومة، دققت كثيراً في الشفتين! لم تفكري في الجبين مثلاً أو الحاجبين، قالت هامسة خشية أن ينتبه أحد مما حولنا يفهم العربية فنجد أنفسنا في وضع حرج،
توقفت ضحكاتنا المكتومة وانتصبنا وقوفاً حالما سمعنا نداء إلى محطة وقوفنا: «هتفيلد».
* قصة قصيرة لم تنشر، كتبت بتاريخ 2010م.