د. حسن بن فهد الهويمل
تخاف الأمة من الرصاصة الطائشة، ولا تخاف من الكلمة المسددة. مع أن الرصاصة تنهي حياة الفرد، والكلمة قد تنهي حياة الأمة:- {وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
[أمريكا] التي تملك [الرصاصة] الرادعة، و[الكلمة] النافذة أنهكتها [الكلمة] المضادة، ولم تَضِرْها [الرصاصة] المصوبة.
فَرَغْتُ للِتَّوِّ من قراءة كتاب [الأمل والذاكرة] للفيلسوف الناقد البلغاري الفرنسي [تزفيتان تودوروف ت 2017]، وأيقنت أن [أمريكا] تسيطر على العالم بمفكريها، أكثر من سيطرتها بعسكرييها. وأنها بذكائها تستكتب الأندى صوتاً، والأوسع شهرة، والأقدر على تزييف الحقائق. وتتقن [حرب الشائعات]، المتوسلة بالكذب، وقلب الحقائق، مثلما تتقن صنع السلاح الرادع. وعلى الرغم من كل هذه الإمكانات تواجه حرباً كلامية موجعة.
الفرق بين القوتين [الكلمة]، و[الرصاصة] أن الكلمة تُمارس دون تَخوُّفٍ، فيما لابد للرصاصة من تقدير، وتدبير.
و[الرصاصة] حين تنطلق تخلق العداوات، وتحرك زيف الإنسانيات، ودعوى الرحمات، وحق الإنسان في الحياة. مع أن تأثير [الكلمة] أخطر من تأثير الرصاصة، وأقل تكلفة.
عيب عالمنا العربي أنه ظاهرة صوتية هجائية، لا يتقن الحرب الباردة إلا حين يُنفذها مأجوراً لتوهين عزماته، وكشف ثغرات الضعف فيه، كما [براقش].
قرأت من قبل كتاباً تحت عنوان [في البدء كانت الكلمة]، وحرصت على استعادته لاستعراضه، ولكني لم أعرف مستقره. أهو في مكتبتي، أم خارجها، وحين يكون فيها لا أدري في أي حقل هو.
وحين لم أهتد إليه، استعنت بالمواقع، فاتضح لي أن [الكلمة] مصطلح [كهنوتي] له دلالات متعددة مستقاة من [الأناجيل] وما قصدت هذا، كما لم أقصد كتاب [في البدء كان الكلمة]، لـ[خالد محمد خالد] لأنني قرأت عنه، ولم أقرأه.
و[خالد] نَزَّاع إلى الفكر، والحزبية، والحرية. كما لا أدري هل كتبه قبل تحوله الفكري، أو بعده، وهو تحول جذري نحو الأفضل.
للكلمة الهادفة الواعية البداية، والنهاية. فحياة الأمة عمادها الكلمة مسموعة، ومقروءة.
فمن صنع [الملل، والنحل]، وسائر المذاهب والأحزاب؟. إنها الكلمة. ومن زَيَّف الحقائق، وهز الثقة، وأخرج الجماهير من بيوتهم؟ إنها الكلمة.
[موسى] عليه السلام، أدرك أنه الأقل قدرة بسبب عقدة لسانه، مع أنه الأقوى جسداً، ومن ثم طلب الاستعانة بأخيه [هارون]. ودعى بحل تلك العقدة المانعة من الإفصاح، والبيان.
[عيسى] عليه السلام وهو طفل، أنهى العقاب القاسي:- {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}، حين أنطقه الله:- {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.
ومحمد صلى الله عليه وسلم، أُعِدَّ ليكون أفصح العرب، وكانت معجزته كلمة. إنها الكلمة لا نلقي لها بالاً، وهي الخدر الذي ينساب في مفاصل الذاكرة، فيلغي كل مخزونها، ويحولها قوة فاعلة في ركاب القائل. وفضل الله على الإنسان أن [علمه البيان].
محاور الشر تستنجد، وتستجدي، وتَشتري الأقلام، والألسنة لتزييف الحقائق، وتوهين الخصوم. وكم من كلمة فاقت بأثرها البُنَى التحتية، والفوقية.
مررت بمتحدث يوازن بين موقف [اليابان] بعد الضربة النووية، وموقف العرب بعد الاجتياحات الغربية، وردة الفعل عند الفئتين.
[اليابانيون] حاكموا أنفسهم، وارتدوا إلى الداخل، وصوبوا الكلمة إلى نواقصهم. و[العرب] تنصلوا، وزكوا أنفسهم، وتوجهوا بكلمتهم الهجائية إلى الغرب، فما زادهم الزعيق إلا خبالاً.
في [العراق] خرج الغوغائيون ذات مرة، أيام الاستعمار [البريطاني] في مظاهرات صاخبة باتجاه [ثكنة الحبانية] فهرع الحراس إلى القائد [الإنجليزي] المسترخي حول [بركة السباحة] وهو يدخن السيجار، ليتحرك. فما زاده ذلك إلا استرخاء.
قائلاً للموجفين باللهجة العراقية:- [أكو طوب] أي: هل معهم مدافع يضربون بها الثكنة؟.
قالوا: لا.
قال: دعوهم يُفْرِغون انفعالاتهم بالزعيق.
لا أحد يعجزه القول، ولكن الكلمة ليست مجرد صوت فارغ. إنها برهنة، وتوثيق، وحماية. إنها خطاب ينذر بالفعل. الكلام الفارغ كالعملة التي ليس لها غطاء. مجرد ورق ملوث بالأحبار.
الكلمة مسؤولية، تكشف عن حقيقة قائلها، الكلمة التزام، ومن لم يحم كلمته لا يحمي نفسه. المرء مخبوء تحت لسانه، وقديمًا قبل:- [تكلم حتى أراك].
المفكر [عبدالله القصيمي] وصف العرب بأنهم ظاهرة صوتية، تجتالهم اللعب فتنطلق حناجرهم بالزعيق غير المحمي. ثم يأخذهم السكون، بانتظار لعبة أشد، وأعتى.
[كلام الليل - عند أولئك - يمحوه النهار]. الكلام غيْر المسنود، كالريح العقيم تحرك الأشياء، ولكنها لا تحمل اللقاح. وإنما تكشف عن مكامن المهرجين، بحيث يسهل الاهتداء إلى أشيائهم، ومثمناتهم.
نريد من أمَّتِنا المبحوحة كلاماً مليئاً محمياً، لا بذاءة فيه. كلاماً يحترم المصداقية، ويغير ما في الأنفس:- {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، لا نريد المجاراة بالمهاترات:- [فأنت ومن تجاريه سواء]. نريد اختيار الخصم العاقل، لا الخصم اللئيم.
القرآن الكريم أرهب أرباب الفصاحة، والبيان، وأقَضَّ مضاجعهم، وهو كلام. حتى قال قائلهم كما حكى الله عنهم:- {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
وحتى أكد أحد المستشرقين أن المسلمين لن يُغلبوا مادام القرآن بين أيديهم، أو كما قال أخرس الله لسانه.
المؤكد أن للكلمة فعل السحر، وكيف لا يتأتى لها التأثير، والمشركون وصفوا الرسول بالساحر، والشاعر، والمجنون، ومنشأ حيرتهم خدر الكلمات الذي ينساب في مفاصل التفكير.