د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يختلف مصطلح استصلاح عن مصطلح إصلاح، فالاستصلاح هو إجراء تعديل أو إضافة عنصر أو مادة على ما هو موجود، أما الإصلاح فيتطلب إجراء تغييرٍ في طبيعة ما هو موجود. استصلاح التربة يأتي بإضافة أسمدةٍ أو عناصر غذائية لها وإصلاحها يتطلب تغييرها أو إضافة مواد تغير من تركيبتها. ومضت عقود ونحن نتكلم عن ضرورة إصلاح التعليم وتعاقبت أجيال من المسئولين على استصلاحه تارةً بالمطالبة بإدخال التقنية والحاسوب، وتارةً أخرى بإضافة موادٍ كاللغة الإنجليزية أو التربية الوطنية وهلم جرا. واليوم نسمع عن استصلاحٍ جديدٍ بإضافة مادتي التفكير الناقد (النقدي) والفلسفة. ومصطلح «التفكير الناقد» يبدو بذاته تسميةٌ «مبتكرة» لمصطلح متعارف عليه هو «التفكير النقدي». فالذات هي الناقد وما يصدر عنها تفكيرٌ ذو طابعٍ نقدي. ولو افترضنا أن هناك خطأ صرفيا في وصف التفكير بأنه نقدي، أي اتبعنا أسلوب الحذلقة النحوية، فكما يقال خطأ مأثور خير من صواب مهجور.
أما مقرر الفلسفة، فهذا شأن آخر تمامًا إذ يبدو كطموحٍ بز كل ما قبله. فالفلسفة محيط متلاطم من الرؤى والأفكار لها تاريخ فكري متسق وروابط وقواسم مشتركة فهمها يتطلب تخصص عميق في هذا التاريخ. صحيح أن كثيرا من العلوم تستند على مرتكزات فلسفية معينة، ولكن لم يتجرأ أي نظام تعليمي على الخوض في هذه المرتكزات عند تدريسه المواد، فالخوض فيها يشتت فكر الطالب ويزعزع يقينه في كل ما يتعلمه وكل ما حوله. وقد أصاب الذهان الكثير من الفلاسفة أنفسهم جراء التعمق في البحث عن الحقيقة المطلقة. وتمحور فكر «هيوم، وبيركلي، وفيتجنشتاين» حول الشك في معرفة ما هو خارج الذهن من عالم إمبريقي (ميتافيزيقي)، وشكك التفكير الوجودي لهيجل، وسارتر، ونيتشة وكيركجارد في وحدة وانسجام الذات المدركة، وهذا يتعارض مع مسلمات دوغمائية نشأنا عليها ونعدها غير قابلة للمساس. أما إذا كانت الفلسفة المقصودة في المنهج مختلفةً في ذهن من أقرها فلا بد أن «تعّرف» وتضاف لتعاريف الفلسفة المتداولة.
لا أعرف لما خطر ببالي اقتراح لمسئول سابق طالب عن حسن نيةٍ وحماسٍ بتدريس الإنجليزية لطلاب المراحل الابتدائية وهو أمر مثله لم يقر حتى في الدول التي تستخدم الإنجليزية كلغة رسمية. كنت ممن استغربوا هذا القرار الانطباعي. إذ أننا ولو تركنا التأثير على أمور الهوية الفكرية والوطنية جانبًا، فأمر تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية يتطلب عشرات آلاف المعلمين، ويعرف المختصون أن هناك ندرة عالمية في عدد مدرسي اللغة الإنجليزية المختصين، فليس كل من تكلم الإنجليزية يستطيع تعليمها. ومدرسو اللغة الإنجليزية المختصون هم الأعلى مرتبات بين المعلمين حول العالم. فتبع ذلك اقتراح آخر باستيراد عدد من المدرسين من بلدان آسيوية يستقدمون كما تستقدم العمالة الأخرى. والجميع بالطبع يعرف أن هذه المغامرة انتهت بسرعة بعد الاطلاع على مستوى بعض من تم استقدامهم.
التساؤلات ذاتها تطرح حول طرح مقرري التفكير الناقد والفلسفة، فإضافة لصعوبة إعداد مقررات محددة في هذين المجالين، هناك تساؤلات حول من سيدرسهما؟ ومن تجربة في محاولة تدريس المعنى اللغوي، وعلاقة اللغة بالواقع والعقل في الجامعة، اكتشفت أن معظم الطلاب لم يتعود أو لا يريد أن يمارس التفكير المنهجي في الوصول للنتائج وفهم الاستنتاجات المترتبة عليها، ويتوقع من المعلم أن يقدم له الحقيقة جاهزة على طبق صغير ليحفظها ويعيد كتابتها في الاختبار. هكذا اعتادوا. وفي مرات عديدة تقدموا بشكاوى لمسئولي الكلية على أني أدرسهم فلسفة وكأن تلك كانت تهمة، وكانت المواد أحيانًا تسحب مني بهدوء خوفًا من الفلسفة.
ولو أعملنا «التفكير الناقد» ذاته في جدوى إضافة هذه المواد لمقررات التعليم لوجدنا أنها لا تتناقض فقط مع ما يدرس في مقررات أخرى كثيرة تعتمد الحفظ والتلقين، بل أنها أيضًا ستشكل عبئًا إضافيًا على الكم الهائل من المواد التي يدرسها أبناؤنا في مدارسنا. والأجدر بنا ربما التخفيف من كم المقررات الكثيرة التي لا تتطلب التفكير والتي تتكرر على الطلاب بأشكال مختلفة في بداية كل فصل دراسي، وهي مواد من كثرتها تشغل الطلاب عن تعلم المواد الأخرى المعتادة في المدارس حول العالم. فنحن لا نعيد اختراع عجلة التعليم ومسؤولونا جابوا الآفاق من اليابان للأرجنتين للاطلاع على نظم التعليم في البلاد الأخرى. وتعليمنا يحتاج للإصلاح بالتخفيف من التكرار والحشو، والتركيز على الكيف لا الكم حتى لا تضاف جهودنا لمقترحاتٍ رومانسيةٍ استصلاحيةٍ سبقتها وطواها النسيان، ككمبيوتر لكل طالب، أو الصفوف الإليكترونية، أو تأسيس اقتصاد المعرفة.