د. جاسر الحربش
العولمة في مفهومها النظري هي فتح الدول أسواقها لحركة الأموال والبضائع بادعاء المنافسة العادلة (بين القوي والضعيف؟)، بما يشمل منع الدول الأقل تطوراً من تقديم الدعم لصناعاتها المحلية، بالتبرير نفسها، المنافسة العادلة.
في نتائجها الفعلية كانت العولمة محاولة تكبيل طموحات الدول النامية في التطور الصناعي والتقني، لإبقاء الأوضاع السائدة، دول متخلفة تبيع الثروات الطبيعية بأسعار متدنية ودول صناعية غنية تحول خامات هذه الثروات إلى بضائع استهلاكية تباع بأسعار فاحشة.
فرض العولمة على الدول الأضعف بدأ بعد أن أنجزت بعض الدول المتخلفة محاولات جادة للتصنيع المحلي والمنافسات الخارجية.
لا مجال لرفض العولمة لأن ذلك يحرم الرافض من التشارك بالحركة الاقتصادية العالمية ويُعزل.
الغريب أن سلعة واحدة كانت منذ بدايتها معولمة واستمرت كذلك وهي سلعة النفط. منذ الأيام الأولى خضع النفط لاشتراطات الدول الصناعية الكبرى وليس لاحتياجات الدول المنتجة التي كانت فقيرة ومتخلفة وبأمس الحاجة إلى أسعار عادلة لاستثمارها في التنمية التقنية والصناعية.
الارتفاع التدريجي لأسعار النفط في الأربعين سنة الأخيرة من أرقام أحادية إلى أرقام عشرية صاحبه تطوران لصالح الدول الصناعية الغنية: الأول كان الارتفاع الحاد لأسعار البضائع التحويلية من مادة النفط المصدرة إلى دول العالم الثالث كأدوية ولدائن بلاستيكية ومواد بناء وغرويات وعطور ومساحيق وصولاً إلى السيارات والطائرات والسفن. التطور الثاني كان ارتفاع مداخيل الدول الصناعية من ضرائبها الداخلية على صناعات النفط التحويلية لتكوم في خزائنها أموالاً طائلة تقرض منها دول العالم الثالث بفوائد عالية. وصلت الأمور إلى درجة أن أرباح دولة صناعية مثل ألمانيا أو أمريكا من مبيعات مشتقات النفط تصل إلى عشرات وأحياناً مئات أضعاف سعره في أسواق النفط المعولمة.
لأن دوام الحال من المحال استطاعت بعض الدول الآسيوية بجهودها الذاتية كسر احتكار الصناعات والتقنية، فنبتت كفعل مضاد في العالم الصناعي حيلة عولمة الأسواق بهدف إجهاض المنافسات الناشئة في دول العالم الثاني والثالث.
في السنوات الأخيرة بدأ السحر ينقلب فعلياً على الساحر فأصبح المستفيد من الانفتاح المعولم هو من ينتج أكثر ويبيع أرخص، مثل الصين وكوريا والمكسيك والهند والبرازيل وبعض الدول الأخرى. بما أن طلقة العولمة ارتدت على مطلقيها قام هؤلاء بعكس الاتجاه للانسحاب من العولمة نحو الاحتمائية الوطنية ورفض الاستمرار في الانفتاح البضائعي المعولم. سلعة النفط بحسب فهمي المتواضع استمرت في السياق القديم، معولمة لصالح المستهلك الأكبر وليس لصالح المنتج الأول، بالرغم من الدعم السخي الذي تقدمه الدول المنتجة إلى الدول الفقيرة من مداخيلها التي تعتبر غير عادلة، بهدف تأمين احتياجات من لا يملك النفط ولا المال.