م. بدر بن ناصر الحمدان
قبل سنوات كنت في رحلة عمل طويلة خارج المملكة، وصادف أن زارني مجموعة من المعارف الذين لا تربطني بهم تلك العلاقة المباشرة، كانوا قادمين من الرياض لغرض السياحة، وقررت حينها أن أحتفي بهم بعشاء فاخر تكريمًا لمجيئهم، وحجزت لهم بصفة خاصة في أرقى مطعم للبيتزا على مستوى المدينة، ودعوت عددًا من الأصدقاء الموجودين في تلك الفترة، وقضينا وقتًا ممتعًا جدًا ذلك المساء، وغادروا في اليوم التالي.
بعد فترة وصلني أن أحدهم عاتب عليَّ، وممتعض جدًا من عدم تقديري لهم بحجة أنني لم «أوجّبهم» بوليمة دسمة من لحم الضأن والأرز فوق ذلك الصحن المقدس، لا حبًا في مذاقه أو حاجته للغذاء ولكن ليمارس طقوس التباهي والضيافة التي تعود عليها كمعيار لتقييم الآخرين، وفق خرافة الأعراف التي يؤمن بها، وربما لا يعلم - حفظه الله - أن فاتورة تلك البيتزا وقيمة ذلك المكان الراقي -الذي كان «يُبيّت» النية فيه لنقدي- تتجاوز قيمة ذبيحته المزعومة بخمسة أضعاف ثمنها.
هذا الموقف ربما يبدو بسيطًا في ظاهره ولكنه ذو أبعادًا في غاية السلبية، وهي بلا شك انعكاس حقيقي لثقافة «رجعية» و»متخلفة» موجودة في مجتمعنا وترتبط بمعايير تقييمنا لأفراده، ولا يقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى العديد من الممارسات السلوكية السيئة التي تمثل اختراقًا لخصوصيات الناس وفرض «الوصاية الاجتماعية» على أسلوب حياتهم ونمط عيشهم والتحكم بها.
كنت قبل أيام في حوار عابر مع إحدى الشخصيات المجتمعية المعروفة كوزير سابق، وفاجأني أنه يسافر فقط من أجل ممارسة المشي وارتياد محلات القهوة والتسوق والاختلاط بالناس وممارسة حياته الطبيعة دون شعور بالقلق من سلطة ذلك الآخر، يقول إنه لا يستطيع أن يذهب لأي مكان داخل مدينته «الرياض» إلا بعد «احترازات» اجتماعية «مشددة» من حيث هيئته وملابسة ومستوى المكان الذي سيذهب إليه ونوعية مرافقيه خوفًا من تطبيق الأحكام عليه بأنه «غير مهذب» ولم يقدّر «مكانته» كمسؤول، لا لشيء إلا أنه ربما ارتكب جريمة - أعاذنا الله وإياكم- عندما قرر أن يكون إنسانًا عاديًا وتجرأ أن يخرج من منزله دون ارتداء الغترة والثوب، أو سوّلت له نفسه أن يمشي على الرصيف، أو -لا سمح الله- اشترى علبة شوكولاتة من بائع متجول وجلس على ناصية لاحتساء فنجان من القهوة.
حينما نغادر إلى مكان مختلف -لا نشعر فيه برقابة الآخر- ونبتعد عن محيطنا نكتشف الحياة «بطبيعتها» بلا قيود ولا وصاية، ونستطيع أن نارس «فعليًا» حريتنا الشخصية «المشروعة». شخصيًا ما زال لدي قناعة أن نسبة كبيرة من الذين يسافرون هم في الأصل «هاربون» من هذه الرقابة التي أفسدت حياتهم.
هذه حقيقة «كامنة» لا يمكن إنكارها أو تجاهلها لكننا نتعمد جميعًا إخفاءها وعدم مناقشتها أو نقدها بل وربما نمارسها بأنفسنا لنبقى في نظر من يحيط بنا «مثاليين» مزيفين، إما لإننا لا نستطيع الخروج من عباءتهم أو لأننا لا نمتلك الأدوات التي نستطيع من خلالها إجبارهم على تغيير هذه الثقافة والارتقاء بعلاقاتهم الاجتماعية.
هناك من هم قادمون من ثقافة القرون الوسطى ويعيشون معنا، يحملون في جعبتهم بذورًا «جاهلية» لغرسها في أرضية يكافح الجميع لأن تكون «متحضرة» بمعايير «الحضارة» نفسها، لا تتركوا هؤلاء يعبثون بنا، نريد أن نعيش حياتنا كما نريد نحن، لا كما يريدون هم.