د.عبد الرحمن الحبيب
يتوقّع علماء الهندسة الوراثية أن التقنيات الأحيائية الجديدة بإمكانها مستقبلاً عمل تحسينات وراثية «تنتج» أطفالاً أكثر صحة ومقاومةً للأمراض، قد يصل إلى إنتاج الإنسان الخارق «سوبرمان». لكن ثمة محاذير أخلاقية بعواقب إنتاج أطفال تحت الطلب، ومخاطر صحية سواء كآثار جانبية أو حتى طفرات مدمرة أو تقطعات داخل الجينوم البشري لا تُعرف تأثيراتها التي قد تضر بأجيال قادمة.
بيد أن الموضوع لم يعد رأياً للمستقبل وليس من أفلام هوليوود، بل أصبح حقيقة بين أيدينا، ففي الشهر الماضي أكَّد العالِم الصيني خاه جيانكوي ترؤسه فريقاً أجرى أول عملية بتاريخ البشرية لتغيير الحمض النووي لجنين قبل ولادته، على أجنة سبع حوامل، أنجبت إحداهن طفلتين لديهما مقاومة للعدوى بفيروس «الإيدز».. وذكر أن هدفه ليس علاجاً أو منع انتقال الأمراض الوراثية، بل محاولة خلق قدرة غير موجودة عند الإنسان العادي، وهي مقاومة الجسم لعدوى فيروس الإيدز. وأفاد طبيب أميركي بأنه شارك بالجهد الذي جرى بالصين، لأن هذا العمل محظور في أمريكا.. وعن السؤال الأخلاقي لهذه العملية، قال جيانكوي: «المجتمع سيقرِّر بنفسه ما يجب عمله لاحقاً» (صحيفة تلغراف)..
ما إن انتشر هذا الخبر حتى واجهت التجربة سيلاً عرماً من الاحتجاجات الأكاديمية والحكومية داخل وخارج الصين.. فجامعة شينزن التي عمل فيها جيانكوي، أعلنت صدمتها بالخبر، واعتبرت التجربة انتهاكاً صارخاً للمعايير الأخلاقية، مشيرةً إلى أن العِالم لم يُطلعها بقيامه بهذا العمل خارج الجامعة؛ فيما أمرت اللجنة الحكومية الصينية المختصة بالصحة وتنظيم الولادات بإجراء تحقيق شامل ودقيق في القضية.. حتى إن نائب رئيس الوزراء الصيني للعلوم والتكنولوجيا، شو نانبينغ، قال: «التجربة تشكِّل خرقاً صارخاً لقوانين الصين، وتتناقض تماماً مع الأخلاق والقيم الأكاديمية»، وأشار لاحتمال معاقبة القائمين على المشروع العلمي، تبعاً لنتيجة التحقيقات النهائية.. فما قصة كل هذه الضجة؟
بداية لا بد من المرور على بعض الأبجديات، فالتحرير الجيني يُقصد به تقنيات لإعادة «كتابة المادة الوراثية» عبر إدخال أو حذف أو تعديل أو استبدال موقع الحمض النووي DNA في جينوم الكائن الحي، لتزويد جين ضروري أو تعطيل آخر مسبب للمشاكل، بحيث يستهدف مواقع محددة في الحمض؛ وأهم أهدافه علاج الأمراض المستعصية على الطب الحديث كالإيدز والتهاب الكبد الفيروسي ومرض سيولة الدم، فضلاً عن منافعها العظمى للزراعة بزيادة الإنتاج الحيواني والنباتي وإنتاج محاصيل تقاوم الأمراض وتستهلك كمية أقل من المياه وتتكيّف مع الظروف القاسية.
يشار هنا اصطلاحاً إلى أن التحرير الجيني (Genome Editing) يختلف عن التحوير الجيني (transgenic) فهو لا ينطوي على الجمع بين الحمض النووي من كائنات حيَّة مختلفة، بل تعديلات داخل جينوم الكائن الحي نفسه.. لذا ذكرت وزارة الزراعة الأمريكية أن النباتات المحرَّرة وراثياً تشبه النباتات التي تحدث بها طفرات طبيعية وبالتالي لا تخضع للوائح خاصة ولا تثير أي مخاوف تتعلَّق بالسلامة (بيل جيست، فورين بوليسي).
الموضوع بدأ جدياً منذ بضع سنوات، ففي عام 2014، نشرت شركة «سانجامو» للعلوم الحيوية بكاليفورنيا نتائج من تجاربها الإكلينيكية التي استخدمت فيها خلايا مُحرَّرة جينيًّا لعلاج 12 مريضًا بفيروس الإيدز؛ وصرحت الشركة بأنها لم تجد دليلًا على آثار جانبية في دراساتها على الحيوانات. وفي نفس العام، أصدرت منظمة الصحة العالمية مبادئ توجيهية لاختبار البعوض المعدل وراثياً، بما في ذلك معايير الفعالية والسلامة الحيوية والأخلاقيات البيولوجية.
وإذا كان ثمة مخاطر غير مقصودة، فإن ثمة احتمال لمخاطر مقصودة؛ ففي تقييم التهديد العالمي لعام 2016 الصادر عن بيان الاستخبارات القومية الأمريكية، اعتبر مديرها أن تحرير الجينوم هو أحد أسلحة الدمار الشامل المحتملة.. ووفقًا للبيان، فإن التوزيع الواسع والتكلفة المنخفضة، والوتيرة المتسارعة لتطوير هذه التقنية، قد يؤدي سوء استخدامها المتعمد أو غير المتعمد إلى عواقب اقتصادية ووطنية بعيدة المدى؛ على سبيل المثال، يمكن استخدام تقنيات مثل سريسبر لصنع «بعوض قاتل» يسبب أوبئة ويقضي على المحاصيل الرئيسية.
بيد أن تقرير سبتمبر 2016 الصادر عن مجلس نوفيلد لأخلاقيات البيولوجيا في المستقبل، ذكر أنه قد يكون من الممكن تعزيز الأشخاص الذين لديهم جينات من كائنات حيَّة أخرى أو جينات صناعية كلية، إلا أنه حذَّر بأن البساطة والتكلفة المنخفضة لعمل ذلك ستسمح للهواة بإجراء تجاربهم الخاصة، مما يشكِّل خطرًا محتملاً من إطلاق الجينات المعدلة.. وقد يكون لهذه التعديلات الجينية عواقب غير مقصودة قد تضر ليس بالطفل فحسب، ولكن أيضاً أطفال المستقبل، حيث إن الجين المتغيِّر سيكون في الحيوانات المنوية أو البويضات.
لكن إذا أمكن السيطرة على المخاطر والحد من الآثار الجانبية هل تجاز هذه التقنية؟ «التجارب السريرية لتحرير الجينوم قد يُسمح بها مستقبلاً بمجرد العثور على إجابات لمشاكل السلامة والكفاءة.. ولكن فقط في ظروف دقيقة تحت إشراف صارم» حسب الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم (التي تدعم تمويلها مؤسسة غيتس الخيرية) والأكاديمية الوطنية للطب. يقول جيست: «استخدام التحرير الجيني بمسؤولية يحمل معه إمكانية إنقاذ ملايين الأرواح وتمكين الملايين من الناس لانتشال أنفسهم من الفقر. ستكون مأساة أن نفوت هذه الفرصة.»