د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تحتفي اللغة العربية بعد غد الثلاثاء بحضورها الدائم المتدفق الذي ينثال بمآثرها في اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر الذي أقرّته «اليونسكو» يوماً للإعلان عن عالميتها وتصدرّها؛ فوجد فيه المهتمون والمتخصصون في شأنها مدخلاً لتلمّس الصواب في قضايا اللغة في زمن العولمة، والثورة الرقمية، وإلحاح الترجمة، واقتحام أسوار الاشتقاق، ونحت المصطلحات، كما جاء يوم العربية العالمي وهو يتجلَّى، حيث وهجها الخالد «القرآن الكريم {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (سورة الشعراء 192 - 195).
«لغتي بأسفار الخلود غنية
غصت خزائنها بما يتوسمُ
حفُلت بمختلف العلوم وإنها
لهيَ السبيل المستبين الأقومُ
منها تفجّرت المعارفُ وانبرت
منها ينابيع الفصاحة تَثجُمُ»
فيوم العربية العالمي تعبير دولي عن استحقاق الاستمرار الذي حفظه لها القرآن الكريم؛ وشرَّفها بين اللغات؛ فهي لغة موجودة في أصل هوية المسلمين, بينما غيرها من اللغات مشتقة مصنوعة وذلك مما يحتم إعادة ترتيب الأوراق لتأسيس الوعي التام بتمكين اللغة العربية من المنصات العليا للكفاءة التواصلية باعتبارها رابطة اجتماعية وفكرية؛ وتمكين اللغة العربية من الحضور الكامل في كل شؤون الحياة, وتمكين اللغة العربية لتحمل المعارف الحديثة وتكون ذاكرة للعلوم والتقنية وتمكين اللغة العربية من ثقافة الاستئناس من معجمها الوافر في واقع التعاملات الحديثة وتمكين اللغة العربية من اعتلاء منصات الفنون والآداب اعترافاً وشغفاً بجمالياتها.
كما يلزمنا تطوير التلقي اللغوي في التعليم، حيث غاب في زحمة التفاصيل التي يمتلئ بها العبء التدريسي! وما زال واقعنا ينتهب واقع اللغة العربية فأصبحت ممكناتها في واقع المجتمعات هشة لا تُقِلّ ولا تحمل؛ يتصدر ذلك أن التعليم هجر اللغة في عدد من التخصصات الأكاديمية في الجامعات, كما أن اللحظات الحاضرة كشفت عن هجرة من الناشئة إلى التعليم الأجنبي الذي أتاحته أنظمة التعليم وكان في سابقهم مقيداً! والعجيب أن التعليم الأجنبي دلف إلى الأسرة ترافقه الحفاوة والترحيب! وكان وما زال من أمنيات الناس, كما أن اللهجات العامية أصبحت تشرق وتبرق في الإعلام الجديد ومواقعه ومنصاته, فانتشرت القصيدة الشعبية وتفوَّقت في الترنّم والاستماع والتذوّق ودلفتْ بما يُسمى «الشيلات» لتنضم لفريقها من الهجيني والمسحوب والمقلوب, ولا مكان للفصحى إلا من متخصصين حين يتربعون على منصات اختصاصهم, ولا نُخفي سراً أن اللغة العربية كمواد تعليمية تعاني جفافاً في الأسلوب يتولَّد عنه صعوبة في التفاعل خلال التلقي؛ إضافة إلى ما يحيط بالتعليم والمدرسة من صعوبات تنظيمية وتشغيلية أسهمت في التواري عن العناية التامة بالخطاب اللغوي السليم وممكناته تطبيقاً وممارسة! والحقيقة أن السياق اللغوي سياق موروث, فإن كان سليماً فسوف يمتد للأجيال القادمة حاملاً معه قناعات كبرى بأن اللغة العربية لسان عبقري مبين.
وثمة جوانب تؤطّر لبناء كفايات لغوية وتداولية حافزة؛ فنأمل أن تحظى اللغة العربية بوثيقة تحدد واجبات مؤسسات التعليم تجاهها وأن تعتمد الوثيقة ضمن السياسات الوطنية، وأن تكون مما لا يمكن اختراقها ولا مخاتلة واقعها ولا التنازل عنها، ومن قوادح الترقي والتلقي الأمثل أيضاً العناية باختيار معلمي اللغة العربية من ذوي المعرفة الغزيرة في مجالهم والتمكّن اللغوي والقدرة التواصلية العالية؛ كما أن مواكبة واقع المتعلِّمين ووجيب الحياة حاضراً ومستقبلاً يحتم العناية بالتقنيات الرقمية كمؤثر حديث في تعلُّم اللغة العربية وخدمتها ويجب أن يأخذ حيزاً وافراً، فاللغة العربية مسؤولية وطنية وليست وظيفة لأفراد فقط.
ولعل فيما سوف يُطرح من رؤى حول اللغة العربية في يوم عالميتها هذا العام يكون مقدحاً لمشروعات تدفع الأجيال إلى اللسان العربي المبين، وأمنياتنا أن يكون مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية الذي تشرُف بلادنا باحتضانه وجهة لغوية لتشييد منصات تمكين المتعلِّمين من لغتهم العربية الخالدة فبلادنا أجدر بهذه الفضيلة.