د. محمد عبدالله العوين
كان النغم العذب ينساب في هدأة ليلة ربيعية من ليالي القاهرة مع نسمات رطبة يرشها النيل فتختلط نشوة الفن بسحر الصوت بهدوء الليل، كيف طغى صوت الست على بقايا الضجيج؟! وكيف غدت مشاعر الحب المنطلقة في الفضاء المفتوح كاشفة أسرار الليل حين يتوحد البشر في التعبير عن عواطفهم النقية قبل أن تتخشب وتتحول إلى صخور قاسية.
شرفة الفندق المشرعة على النيل لا تستقبل الندى وغناء المبحرين على مائه فحسب؛ بل ينساب صوتها الشجي يقرع باب قلب لم يغلق أبدا أمام استلاب الجمال، صوت لا يعزف على الأوتار؛ بل تضرب كلُ آهة منه ما اندثر من قصة لا يود لها أن تتوقد من جديد.
آه منك أيها النغم العذب الذي فجر الكامن في هذه العتمة:
«النغم رجعت حلاوته القلب وفضلك أساوته
الهوى اللي هان علي ابتديت تعرف غلاوته
النهار ده الحب سيرة كان وكان
لما تسألني أقولك كان زمان
لسه فاكر كان زمان»
ألقى الأهرام على الطاولة الصغيرة، نسي قدح الشاي المنعنع، نسي أنه في الدور الرابع المطل على النيل والمواجه لكبرى قصر النيل، لم يعد يعرف أين هو، غيبه النغم المنساب، مأخوذ هو بتدليع صوتها لـ»غلاوته» متكئ على جدار الشرفة القصير، شعر أنه ليس وحده من يسمع الصوت المنبعث من مكان لا يعرفه؛ ربما من سفينة عابرة أو متوقفة تنعش القلوب المتعبة أو الناسية أو المتناسية أو البالية أو الصدئة أو المعطوبة بما يعيد إليها النبض من جديد، أو ربما من كشك صغير مقابل للفندق يبيع الصحف والسجائر يمر عليه في الصباح وهو ذاهب إلى مواعيده المتلاحقة التي تكاد تتزاحم مع زحام القاهرة ويمر عليه في المساء حين يعود بعد إجهاد وجوع ولهفة إلى الاضطجاع ساعة استعدادًا للتمتع بما يختاره من روزنامة ليل القاهرة الطويل، يرى حين ينقد بائع الصحف داخل الكشك شابا تبدو ملامحه الصعيدية غير خافية في لهجته المحببة ولفافة عنقه وثوبه واسع الأكمام، شاب عيناه تخفيان ضنى مكتومًا، تختبئان على قصة، لا يتحدث مع أحد إلا بكلمات مجاملة عابرة؛ إلا أنه حين يبدأ الليل في السكون ينقلب كله إلى شجن؛ شجن يفضح ذلك الضنى المكتوم الذي يتقافز بين عينيه ويستتر خلف كلمات المجاملة العابرة.
إذا ًهو الصوت الساحر منبعث من الكشك الصغير؛ لا من السفينة الراسية ولا من تلك العابرة.
يا هذا الشاب الصعيدي الجميل إن بيني وبينك قصة مشتركة، أنا وأنت يكتب قصتنا صوت الست قبل أن يكتبها الشاعر أو الملحن، صوتها هو المبدع الأول، أأنت تترجى أن يشاركك أحد في معاناتك فتسمع فضاء القاهرة قصتك؟ كل الناس أنت أيها الفتى المضنى، ثمة أحد يخفي ذاته ويدفنها في الاعتياد والتكرار البليد إلى أن تموت، وثمة من لا تموت ذاته أبداً حتى لو علاها غبار زمن قاهر مستبد.