تمرّ بك بعض الأيام، فتستودع لها عندك رصيدًا من الذكريات الجميلة، التي تَهَشّ لها سعْدًا وبِشرًا كلما لاحت لك مع تقادم الأيام، وإن لبعض الذكريات قَبَسًا يستضيء به مُحيّا صاحبها، فيبتسم لها ابتسامة الجَذِل، وما ذاك القبس إلا من التيّار الشعوريّ، المشحون أنسًا وحبورًا.
يا رُبّ يومٍ من حياتك فائتٍ
لو يُفتدى تفديه بالسنواتِ
في يوم الجمعة 1440-3-22هـ زرت بصحبة أستاذي عبدالعزيز بن صالح العسكر، وأخي عثمان بن عبدالرحمن الجاسر الشيخَ الأديبَ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريّف، في منزله الآهل بالبشاشة والجود والأدب والكتب بحريملاء. ولقد أكرمنا الشيخ وأبناؤه - سلّمهم الله - بمراسم الاستقبال الخُلُقية عند الكرام الحفاوة والبشاشة:
يَبَشُّ بوجه الضيف حين يؤمّه
ويفرح حتى يُتخَمَ الضيفُ منهما
وليس قِرى الأضياف يومًا بسائغٍ
لهم إن دعا داعي القِرى مُتجهّما
وعلى عادة ساعات الأنس فقد مرّ الوقت بنا سريعًا، فانصرفنا من عندهم مُشيَّعين بمراسم الوداع الخُلُقية عند الكرام الشكر والتقدير والدعوة لزيارات أخرى:
إن الكريم يرى لطالب سَيْبِهِ
فضلاً عليه إذا أتى لسؤالِهِ
لقد أخذت الدهشة بألبابنا من هذا الشيخ الثمانيني، الذي يمتلك روحًا فَتيّة، وعزيمة شابّة - حفظه الله وزاده من فضله -، ثم أخذت الدهشة بأسماعنا إنصاتًا لأحاديثه المتدفقة أدبًا شعرًا ومثلاً وحكمة، كما أخذت بنواصينا إطراقًا أمام تواضعه الفطريّ.
لم تكن معرفتي الشيخَ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريّف حديثة، بل تجاوز عمرها عشرين عامًا، غير أني لم ألتقِ به قبل هذا اليوم، إلا في صفحات المجلة العربية، وصحيفة الجزيرة، وغيرهما من الصحف والمجلات، التي كانت تُشرق بألق أحاديث الشيخ وذكرياته مع أحبابه وأصحابه؛ حُبًّا ووفاءً.
لفتَ نظري منذ أمد بعيد وفاء الشيخ عبدالعزيز الخريّف، الماثل في مقالاته التي قرأتها، فهي لا تكاد تخلو من ذكرى، أو تأبين، أو إشادة بذوي الفضل. وأكّد هذا الانطباع عنه ابن صديقه الشيخ عبدالرحمن الجاسر - رحمه الله - فقد ذكر لي الأخ عثمان الجاسر أن الشيخ الخريّف يتصل بهم مهنّئًا ومسلّمًا كلَّ رمضان وعيد، منذ وفاة والده - رحمه الله - عام 1423هـ!
خُلُقُ الوفاء لدى الكرام جِبِلّةٌ
إن الوفاء على الكرام دليلُ
شيخٌ كبيرٌ في السنّ يتصل بأهل صاحبه كلَّ عيد؛ للسلام عليهم وتهنئتهم طوالَ ستة عشر عامًا! لم يُنسِه طول العهد صاحبه، ولم تَصرفه الصوارف عن ذلك كما صرفت غيره ممن هم دونه عمرًا وهمة.
أيُّ حبٍّ هذا! وأيُّ وفاءٍ!
لم تنل منهما صروف الليالي
إن الشيخ الخريّف وأترابه من الجيل الذي ورد حلقات العلم في المساجد والجوامع، وفي دار التوحيد بالطائف، وغيرها من دور التعليم المشيدة آنذاك على أسٍّ متين من العلم، فهي - وإن اندرست معالمها - ما زال ذكرها مشيدًا شامخًا، أعلاه رجالٌ راسخون علمًا وفهمًا، وما زال أثر بنائها العلمي المتين في طلابها الأحياء - حفظهم الله ونفع بهم -.
لقد نهل ذلك الرعيل في زمن صِباهم من أشياخهم وأساتذتهم العلوم والمعارف والآداب الصافية، فتروّت بها نفوسهم وزكت، وآتت أُكُلها لطلابهم ومُجالسيهم.
قلتُ قبل وما زلت أقول: حريٌّ بي وبأمثالي وبمن دوننا سِنًّا أن يُقبلوا على هؤلاء الأشياخ قبل أن يدبروا عن الدنيا، وإني ضامنٌ أن يؤوبوا منهم بدلاءٍ ملأى علمًا وأدبًا وحكمةً وتجربة.
** **
فهد بن علي العبودي