نادية السالمي
ثمة أسباب خيالية غير واقعية تجعل الحقيقة تتوارى خلف الضباب أو تحت التراب، وإن ارتفع قدرها تعلقت بخيط يمتد من السماء لا يمكن الوصول إليه، ما يجعل الكثير من الناس يستمد ضياعه من هذه الأسباب ويبقى هائمًا فيها دون دراية.
غرامشي وفوكو:
من المثقفين العرب من ينادي بالمثقف المتخصص حسب مفهوم الفرنسي «فوكو» وفلسفته عن المثقف، ومنهم من ينادي بالمثقف العضوي حسب مفهوم وفلسفة الإيطالي «غرامشي»، وهذا جيد في حد ذاته لولا أن البعض يفهم حقيقة هذا التصنيف بطرق ملتوية فالمثقف العضوي في فكر الآخر متوهم بامتلاك المعرفة والوعي، وهذا الطرح بعيد عن الثقافة والوعي. والمثقف المتخصص عند الآخر مقنن بصناعة الفكر وصياغة المفاهيم، وهذا الطرح يبخس ويقلل من أثر المثقف. ولا أدري ما المانع من أن يكون المثقف حاذقًا في صنع دور يناسبه مع كل أزمة طالما أنه يملك أدواته المعرفية والفكرية وفوقها الضمير اليقظ لإنتاج خطاب متوازن وحلول عملية حتى لو كانت تقديم الأجدر؟!.
المثقف مسؤول دون مسؤولية:
المثقف يمتلك مخزونًا معرفيًا يغذيه باستمرار، ويمتلك رؤية استشرافية وملكة تفكير، مايخوله لتوظيف كل هذا في طريقة صياغة المفاهيم، وتفعيل الرؤى لخدمة المجتمع، المثقفون من المفترض أن لهم دورًا رياديًا في الدفاع عن الحرية الفكرية والثقافية والسياسية وهم من المفترض أن ينتمون إلى طبقات اجتماعية وفكرية شتى في المجتمع، فلا مثقفو الطبقة البرجوازية وحدها قادرون على صنع فارق ومنتج ثقافي ولا الطبقة الكادحة، وهذا التنوع يمثل سعة واتساع الثقافة، وهو ما يطمئن السواد الأعظم ويبعثهم على تصديق المثقفين والالتفاف حولهم.
هذا الدور للمثقف هو ما دعى المفكر العربي «عبدالله العروي» إلى إرجاع مسؤولية الانسداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي إلى المثقف بوصفه مستقلا عن جميع الإكراهات، وهو لا يرجع هذا الانسداد إلى السياسي لخضوعه للإكراهات السياسية والضغوط الداخلية والخارجية، كما لا يرجعه على المواطن البسيط الذي يخضع للإكراهات الاجتماعية ومتطلبات المعيشة!.
وكلام «العروي» صحيح في مناخ من الحرية صحي وهذا ما لا يتمتع به المثقف العربي، فأنّى له تحمل العواقب السياسية والاجتماعية في المنطقة؟!.
المثقف مسؤول لكن المسؤولية لا تعترف به في بلاد العرب إلا وقت حاجتها بطريقة مرسومة الأحداث والأدوار، معلومة النتائج.
الداء والدواء:
مهمة المثقف العربي اليوم شاقة بالنسبة للمثقف الغربي السبب الأول لأن المدى الطويل للاستبداد السياسي والأصوليات الدينية وبالتالي غياب الفردانية، أدى إلى عرقلة الفكر والوعي، ورسّخ الاستعداد للتلقي ونفر من الفكر النقدي في المجتمعات.والسبب الثاني لأن عليه أن يكمل دور المثقف الغربي ويطوره كلما أمكن ولا يعتمد عليه في الفلسفة وطريقة التفكير ومعالجة الأمور. إذن المثقف عليه أن يساعد نفسه أولا بالمعرفة المستمرة والتفكير المتواصل، ويؤمن أنه بمفرده حزب بعيد عن الأحزاب وأطرها الضيقة، ويمتلك الضمير الحي الذي يؤمن أن للجميع حق في حرية الرأي والمساواة في الحقوق وهو بهذا يسوّي للحوار أرضًا متعرجة، ثم يأتي دور الدولة الراغبة في بناء الإِنسان وتعزيز قدراته بتمكين المثقف ومساعدته.