د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ولا تقتصر الفروق بين ما يرويه أصحاب الفصائل المختلفة في رؤيتهم للحدث الواحد، بل إن ذلك ينطبق على رواية أصحاب الفصيل الواحد من الاتجاهات المتعددة لما يروونه من أحداث، فأصحاب الاتجاه الشيوعي حين يروون الأحداث تختلف رواياتهم فيما بينها اختلافاً كبيراً، مع أنهم يقصون أحداثاً واحدة، وفي زمن واحد، ويتصل بتنظيمات واحدة، وزاوية نظر واحدة أيضاً، فإن هناك فروقاً كبيرة بينهم على مستويات متعددة.
ويمكن ان أبدأ بموقف الحركات الشيوعية وعلى رأسها «حدتو» من حرب فلسطين سنة 1948، فهنري كورييل يطيل الصفحات في الحديث عن موقف «حدتو»، ويسعى لتبرير رؤيتها أن الحرب كانت مجرد خدعة نصبها الإنجليز لإثارة العداء بين العرب واليهود، ويصر على صحة الموقف، في حين أن محمد الجندي على الرغم أنه يذكر الموقف نفسه، وأنه كان صواباً فإنه لا يفصل التفصيل عينه، بل إنه يشير إلى أن العرب قد اتخذوا موقف الحرب دون استعداد له، وهذا ما يجعل موقفه من الحرب مختلفاً عن موقف كورييل الذي يبدو موقفه أيديولوجياً حيث يرى أنها -الحرب- تغذي الصراع بين العرب واليهود وإنما يدعو إليها الفئتان المتطرفتان: «الصهيونية العالمية والإخوان المسلمين»، يبدو موقفه استراتيجياً، فسبب رفض الحرب عنده عدم الاستعداد، ولو كانت الجيوش العربية مستعدة لما مانع من ذلك خاصة مع الموقف المعزول الذي وقعت فيه «حدتو» من القوى الوطنية والإخوان المسلمين.
في مقابل ذلك ما يذكره مصطفى طيبة عن الحرب، فهو لا يشير إلا أن الحركة قد أصابها عنت شديد من المجتمع بناء على هذا الموقف، وهو ما يأسف «طيبة» أنه لم يؤخذ بعين الاعتبار عند قيادات الحركة، ما يعني أن -طيبة- لديه موقف آخر من الحرب، بناء على ما عكسته على حركته، ولكنه يعتذر عنه بأنه موقف الحركة أجمع بل موقف التنظيم.
ويبين السبب في إجماع أفراد التنظيم حول هذا الموقف بوصفه مسلمة من المسلمات، كانوا يدرّسونه في الخلايا، معتمدين على محاضرة لهنري كورييل عن «الحق القومي لليهود في تكوين دولتهم على أرض فلسطين».
وهذا يختلف تمام الاختلاف عن الكلام الطويل المسهب الذي ذكره كورييل عن خطورة الحرب لأنها تغذي الصهيونية العالمية، والتطرف في المنطقة، وأنها فخ أرادت منه القوى الاستعمارية تنفيذ أجندتها، فهو لم يذكر لنا شيئاً عن هذه المحاضرة، ولا أيضاً «الجندي»، أو ما كانوا يدرّسونه أفراد التنظيم في المراحل الأولى، ويبين لنا أنه غير صحيح، لسبب بسيط هو أن «الصهيونية العالمية» -على حد تعبيرهم- لا تسعى لأكثر من إقامة وطن يهودي في فلسطين. وهذا عينه ما كان يعلمه كورييل لأصحابه وأعضاء حركته منذ الأيام الأولى في انضمامهم إليه، وكأن القبول بهذا المبدأ الشرط الأول للانضمام للحركة الشيوعية المصرية، ما يعني أنه يتماهى مع الحركة الصهيوينة العالمية، ويحقق أهدافها، وهو ما ينقض كل الأسباب التي يقدمها، وما يبنيه من حجج في تأكيد موقفه من حرب 1948، وأنه سبب نضالي، فليس هناك معنى للحديث عن إثارة الخصومة، والشقاق بين العرب واليهود، وتغذية المتطرفين من الفئتين، إذا كان لا يهدف في مسعاه إلى أكثر من تحقيق أهدافهم، ولكن بطريقة سلمية.
وهذا الاختلاف في الحديث عن حالة واحدة يجعل من الصعب تصور الموقف الحقيقي للحركة في تلك الحقبة بناء على هذه النقولات، أكان موقفاً نضالياً على الطريقة التي يقدمه كورنييل، أم كان موقفاً صهوينياً، بمعنى أن الحركة الشيوعية الأممية ثم المصرية -كما يسمونها- مخترقة من قبل الصهوينية العالمية، وهي تنفذ أجندتها من حيث لا يشعرون أو يشعرون. وهذا بخلاف الحجم الكبير الذي تأخذه الحرب في حديث كل واحد، ففي الوقت الذي تأتي فيه في حديث كورييل ذات أهمية كبيرة، وذات محل مركزي، لا ترد لدى طيبة إلا بربع صفحة، ولدى الجندي مثله.
وقد أشار طيبة إلى هذه القضية على وجه التحديد حين ذكر أن التقارير التي قدمت إلى اللجنة المركزية، وتناقش سبب فشل الحركة الشيوعية وتحولها إلى صراعات بين أعضائها قد أغفل تماماً موقف الحركة من الحرب، وأنه جعلهم غرضاً سهلاً لخصومهم سواء كانوا من الوفد ومصر الفتاة أو الإخوان المسلمين.
هذا التجاهل في حين، والاهتمام بها في حين آخر يدفع إلى الظن أن موضوع «الموقف من الحرب» كان موضوعاً حساساً، وأن الحديث عنه يجر إلى أحاديث أخرى لا يرغب الكتاب في الحديث عنه والانجرار إليه، فكورييل يغفل الحديث عن الحرب في وقته، ثم يفصل الحديث فيما دفع إليه، وكأنه يقر كما أقر «طيبة» بأنه سبب فيما آلت إليه الأمور، إلا أنه يجنح إلى الحديث عنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها في تسويغ الموقف، وإعادة الأسباب في ذلك حتى لا يكون هو السبب.
وموضوع القول في هذا يطول، إنما يقدم نموذجاً على اختلاف الكتاب في حديثهم عن الشيء الواحد حتى لا تظن أنهم يتحدثون عن حقبة واحدة وحدث واحد يصعب معه أحياناً الوثوق بما يقولون، والاعتماد عليه.