رواية «زرياب.. الطائر الأسود ذو الصوت الجميل» للكاتب السعودي مقبول العلوي، صادرة عن دار الساقي في بيروت سنة2014م.
هذا الكتاب يمكن أن نصنفه إلى جنسين من الأجناس الأدبية فهو رواية وسيرة ذاتية، حيث كان زرياب يروي سيرته على لسانه في هذه الرواية حين أعطاه مؤلفها الحرية لأن يتكلم ويروي ما في خلجات نفسه بعد مرور أكثر من اثني عشر قرناً على وفاته. لقد أتى العلوي -ككاتب- لينصف زرياب الموصلي صاحب الذائقة الفنية الرفيعة، الذي كان مملوكاً عند الخليفة المهدي في طفولته وبعدها أهداه لإسحاق الموصلي. برع الكاتب في تصوير أجواء العصر العباسي، بل أخذنا معه في جولة داخل قصر المهدي وجواريه، ووصف لنا الأماكن والأزقة والحارات والقصور ليعيدنا من خلالها إلى تلك الحقبة العباسية ويبحر بنا عبر تفاصيلها التي تداعب المخيلة إلى أن تحط بنا عند أبواب تلك المدن التي طالما عشقنا أن نعيش بساطتها وفخامتها التاريخية العريقة.
الرواية تتميز بالسلاسة في أسلوبها ولغتها وفي تطور الأحداث وتسلسلها، إِذ يجد القارئ السهولة في مسار تطور الأحداث وتغير البيئة الزمنية والمكانية، وكأن أحداثها تنسكب أو تسيل من عنق إبريق بانثيال متماسك، مع محافظتها على ألا يندلق منها شيء خارج وعاء القراءة.
كما تميز الكاتب أيضاً بتقنيته السردية، وكانت لغته رصينة ومناسبة لأهل ذلك العصر بغير تكلف ولا تحذلق، ثم انه أظهر لزرياب شخصية نبيلة على قدر رفيع من الأخلاق الكريمة، حيث كان مخلصاً لسيده الموصلي وتحدث عنه بأمانة وحب في سيرته الفنية والإِنسانية الجميلة، إلى أن وصل الحال بمعلمه أن يغتاظ ويمتلئ بالغيرة والحسد من نبوغ تلميذه ويزج به إلى المنفى وتصبح سيرة زرياب من أقسى سير المنفى. إن هذه الرواية تحمل لنا جوانب متعددة من شخصية المغني زرياب، تلك الشخصية الموصلية البغدادية الأندلسية التي شغلت الناس في حياتها وبعد مماتها، وترصد لنا صوراً من حياة هذا المغني الرائد ومراحلها المختلفة والظروف التي مرت بها من بلاط بغداد إلى بلاط الأندلس.
ويعد زرياب واحداً من المخترعين والمطورين القلائل في زمانه لفكرة «الموشح» وهو أول من أضاف الوتر الخامس لآلة العود.
حصل نقاش بيني وإحدى الصديقات التي أبدت شيئاً من اعتراضها على طريقة معالجة الكاتب لسيرة زرياب، وهي تقول: لم يحقق الكاتب سيرة زرياب تاريخياً وكان هناك كثير من الأخطاء في سيرته الحقيقية فرددت عليها وقلت لها: ما يبرئ (مقبول العلوي) من هذا الاتهام أنه قدمها كرواية فنية، ولم يقدمها كسيرة تاريخية حقيقية ورغم ذلك كانت روايته تحمل الحقيقة عن حياة زرياب التي وصلتنا عبر مئات السنين فتلقفها الكاتب مشكوراً وصاغها بقلمه الزاخر بالإبداع والثروة اللغوية الأدبية الباذخة وقدم فيها سيرة مبدع عربي مليئة بتفاصيل العصر العباسي بأسلوب روائي أبدع فيه كثيراً.
يضاف إلى ذلك أن الرواية جاءت على لسان بطلها، زرياب نفسه، وتطرقت في بعض من فصولها إلى آفة الغيرة والحسد والكراهية التي تجلت للقارئ بوضوح بين إسحاق الموصلي وزرياب، وبين الخليفتين الأمين والمأمون.
ثم إن زرياب قد تجاوز سيرته الشخصية ليتحدث عن الكثير من الأحداث التي وقعت في عصر الخلافة العباسية، في زمن الأمين وظاهرة المجون والعديد من الحوادث التاريخية، ولعل أقساها مشهد موت الخليفة الأمين وسحله في شوارع بغداد، ورصد ردود فعل الناس حيال ذلك، فبعضهم شامت والبعض مشفق وهناك من لا يعنيه الأمر. وصف العلوي للتمازج في المدن الإسلامية العريقة قديماً «عرب وبربر وقوط» وتركيزه في أكثر من مشهد على علاقات الصداقة الوطيدة بين المسلمين والمسيحيين واليهود كان مثار إعجاب في هذا العمل.
كما كانت معاني العشق الأول والإيمان بالزوجة، والغربة ووحشتها والحزن بسبب الظلم، والتسليم للقدر، ورضا زرياب عن كل ما حصل له في حياته من ظلم وقهر جعله يؤمن بأن هذا كله كان سبباً في كل ما أنجزه وصنع منه (زرياب المبدع).
وأختم الكلام عن هذه الرواية بمقولة ابتدأ الكاتب بها روايته لإدوارد سعيد:
«الموسيقى تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى».
** **
- رواسي الرشيدي