مالي أحِنُّ إلى لُقْياكَ يابَرَدَى
أليس لِلظّامِئِ المُشْتاقِ أنْ يَرِدَا؟
وأنْ يَبُلَّ صَداهُ بعْد ما عَصَفَتْ
بِهِ المَوامي ومنْ رَمْضائها رَمَدَا(1)
هُجِّرْتُ بين فَيافي الأرْضِ أقْطَعُها
ومِلءُ مِزْوَدتي شَوْقٌ يجيءُ غَدَا
فتَسْتَمِرُّ رِحالي في تَنَكُّبِها
حِيناً تُسَرُّ وحِيناً تَشْتَكي صَلَدَا
وسِرْتُ في فَلواتٍ لا أنيسَ بِها
فَوّاحةُ القَيْظِ فيها تُسْعِرُ الكَبِدَا(2)
وليس ثَمَّةَ لا بَرْقٌ ولا سُحُبٌ
إلاّ السّرابُ ونَفْسٌ أُورِثَتْ كَمَدَا
والحَرُّ يَنْفُثُ من أنْفاسِهِ حِمَماً
والشّمْسُ تَجْري إلى مَرْقاتِها صُعُدَا
حتّى أَفَضْتُ إلى قَوْمٍ ذَوي حَسَبٍ
قاموا وأَلْقوا على كَتْفيَّ فضْلَ رِدَا
ودَثّروني بألْطافٍ وتَكْرِمَةٍ
والحُرُّ يَأْسِرُهُ الإحْسانُ إنْ وَجَدَا
وأنْزلونيَ في حِلٍّ وفي حُلَلٍ
والنّفْسُ تَأْنَسُ إنْ لاقَتْ جَدَا ونَدَى
وصِرْتُ في مَجْلِسِ الشُّورَى وكان لَنا
نِعْمَ الرِّباطُ الذي لمْ يَنْفَرِطْ قِدَدَا
لكنّنا بعْد وَقْتٍ منْ تقاعُدِنا
هذا أقامَ وهذا شَدَّ وابْتَعَدَا
ولمْ نَعُدْ نَلْتَقي إلاّ بِتَعْزِيَةٍ
ونَرْقُبُ المَوْتَ مَنْ أبْقَى ومَنْ حَصَدَا
فَضَمَّنا رَجُلٌ في قلْبِهِ كَرَمٌ
وعادَ مَجْلِسُنا لِلْحُبِّ وانْعَقَدَا
وَفُتِّحَتْ دارةٌ يَمَّمْتُها فَغَدَتْ
تُزيلُ مِنْ وَحْشَتي ما رانَ واحْتَشَدَا
دارُ الشّبَيْلي التي آوَتْ تَجَمُّعَنا
وما شَهِدْتُ وحيداً فالْوَفا شَهِدَا
نَهْفو إلى مجْلِسٍ في العِلْمِ مَفْخَرةٍ
ولِلْمَكارِمِ هَدْيٌ وافِرٌ وهُدَى
أبو طلال الذي عَمَّتْ فَضائِلُهُ
وفاضَ منْها معينٌ قَطُّ ما نَفَدَا
إذا تحَدَّثَ أصْغَيْنا لِحِكْمَتِهِ
وإنْ تَعضَّلَ صَحْبٌ رَدّهُمْ رَشَدَا(3)
ومَرْجِعِيَّتُنا في كُلِّ مُعْضِلةٍ
يُزيحُ من كُرَبِ المَجْهودِ ما جَهَدَا
مَشَى حَثيثاً على هَدْيٍ وتَبْصِرةٍ
سَيْراً دَؤوباً إلى العَلْياءِ مُجْتَهِدَا
وفي الكِتابِ (مَشَيْناها...) نَرَى شُعَلاً (4)
تَهْدي السُّراةَ لِدَرْبٍ واضِحٍ وهُدَى
يا مَعْدَنَ الطِّيبِ والأخْلاقِ دُمْتَ لنا
كما عَهِدْناكَ غَيْثاً وابِلاً وَجَدَا(5)
** **
(1) الموامي: جمع الموماة، والموماةُ هي المفازةُ الواسعةُ، وقيل الفلاةُ التي لا ماءَ ولا أنيسَ بها.
(2) فوّاحةُ القيظِ: أي شِدّةُ الحَرِّ.
(3) تعضَّل الصّحْبُ: أي اخْتلفَتْ آراؤهم وتشبّثَ كل واحدٍ بوجهة نظره ورأيه.
(4) وفي الكتاب مشيناها: إشارة إلى الكتاب القَيِّم لسعادة الدكتور عبدالرحمن الشبيلي (مَشَيْناها...) الذي يحوي سيرته الذّاتية دارساً ومحاضراً وإعلامياً ورمزاً من الرموز الثقافية السعودية وعضواً في مجلس الشورى.
(5) الجَدَا: المطرُ العام، العطاءُ.
** **
- عبد القادر بن عبد الحي كمال