د. عبدالحق عزوزي
كان مالك رضي الله عنه يوصي طلابه وأتباعه بأن ينظروا في كلامه فما وافق كتاب الله وسنة رسوله أخذوا به وإلا ردوه، كما كان يقول: «ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وفي رواية أخرى للإمام الشافعي: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط»، وقال يوما للمزني: «يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك بنفسك...»؛ وقال سعد بن حنبل لرجل «لا تقلدني ولا تقلدن مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا»
وهاته قمة في التسامح وقمة في الاعتراف بالنقص وقمة في الأخذ بكلام الآخر إذا كانت حجته أقوى... ومن الحقائق الثابتة في تاريخ الأمة الإسلامية وتاريخ البشرية أن الناس مختلفون في تفكيرهم؛ فالإِنسان كما يقول الإمام محمد أبو زهرة من وقت نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون فلا بد أن نقول إن الصور التي تثيرها تلك النظرات تختلف في الناس باختلاف ما تقع عليه أنظارهم..
ومثل المتناسي لضرورة قبول الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين وعلقت بأفكارهم مغالطات ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث واندرجت في محفوظاتهم... فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول ينقلون إلى أعوام الناس أموراً واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الآخر...
ولذلك فالوسطية في ديننا الحنيف هي من المسلمات وهي منهاج وميزان للحياة السليمة، وبها تجذر قواعد الانتماء الحضاري وأبجديات التنمية، وهذا هو الإسلام الحقيقي كما يقول العلامة المغربي عباس الجراري، وعند استقراء مرتكزات هاته الوسطية نقول سوياً عن مميزاتها:
الأولى: تتصل بالإسلام نفسه من حيث هو دين الفطرة الذي يساير خلقة الإِنسان واستعداده والالتزام به {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم الآية 30).
الثانية: سمة الوسطية والاعتدال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا} (سورة البقرة الآية 142) والوسط هو الخير والأفضل لأنه يقع بين صفتين ذميمتين: التفريط والإفراط والتحلل والغلو (خير الأمور أوسطها) رواه الديلمي.
الثالثة: سمة اليسر والسهولة والابتعاد عن التشدد والتطرف {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة الآية 185) (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فشددوا وقاربوا وأبشروا) أخرجه البخاري والنسائي، (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي.
الرابعة: ترتبط بالسلوك الذي ينبغي أن يكون مهذباً ليناً قائماً على الفضائل والمكارم وحسن الأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أخرجه مالك في الموطأ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (سورة فصلت الآية 34).
ويرتكز كل ذلك على مقومات أساسية منها:
أولاً: انه في منطلقه يدين التعصب كيفما كان جنسياً أو دينياً ويضع الإِنسان من حيث هو في مكانة التكريم بأن جعله في ذاته عزيزاً ومتميزاً عن سائر المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء الآية 70).
ثانيا: إنه يدعو إلى التجمع وإلى التعايش والتساكن والتعاون وتبادل المصالح والمنافع أو ما جمعه من قيمة التعارف من غير أي تمييز إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات آية 13).
ثالثا: إنه في هذه الدعوة إلى التعارف يعد أن الاختلاف كامن في طبيعة الكون وسنة الخلق {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة وَاحِدَة وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (سورة هود آية 118-119).
هذا هو ديننا الحنيف. وإذا فهم الجميع هاته المسألة فكثيرة هي المشاكل والفتن وقنوات التثوير والهييج والطائفية التي سقط فيها الناس ستهدأ أو تزول.