هالة الناصر
عانت بعض المجتمعات العربية ولا تزال، من وجود هوة وفجوة كبيرة بين أحلام الشباب والطلاب الجامعيين وبين الواقع الذي يصطدمون به نتيجة الأوضاع الاقتصادية أو الظروف الاجتماعية، الذي يكون عاملاً في تحطم هذه الأحلام وتحول الشباب من مشاريع عباقرة وعلماء إلى مجرد عناصر في ماكينة العمل الروتيني. ومن أبرز الأمثلة على هذه الأزمة، ما حكاه العالم المصري فاروق الباز، الذي يعمل بوكالة الفضاء الأمريكية ناسا منذ عشرات السنوات، وكيف كان سيتغير مصيره إلى الأسوأ لو كان استسلم وسعى وراء الوظيفة الحكومية في بلاده متخلياً عن تخصصه وطموحه. القصة يحكيها الباز في أحد لقاءاته التلفزيونية، حيث يقول إنه عاد إلى مصر عام 1965 بعدما حصل على الدكتوراه في الجيولوجيا من الولايات المتحدة الأمريكية، وكله أمل وطموح في أن ينقل ما تعلمه إلى الطلاب المصريين، وعندما توجه إلى وزارة التعليم العالي، أخبروه أنه سوف يقوم بتدريس الكيمياء في المعهد العالي بمدينة السويس. رفض الباز هذه الوظيفة التي تتعارض مع تخصصه، فهو عالم جيولوجيا كيف يدرس كيمياء؟! لذا قرر التوجه إلى وزير التعليم العالي المصري حينها حسين سعيد، بعدما أخبر أن الوزير هو الذي اختاره لهذا العمل، إلا أن الباز لم يتمكن من لقاء الوزير بعدما ظل يتوجه إلى مكتبه لمدة ثلاثة أشهر متواصلة يومياً من التاسعة صباحاً وحتى الثانية والنصف ظهراً. وفي أحد أيام الانتظار الطويلة في مكتب الوزير، تصادف أن قابل الباز المستشار الثقافي المصري في واشنطن مصطفى كمال طلبة، وكان يعرف الباز من أيام دراسته في أمريكا، وبعدما علم بقصته، نصحه بأن يتوجه إلى السويس لتسلم العمل، وسوف يتدخل بعدها طلبة لمساعدته في لقاء الوزير. ونظراً لظروف الباز الاجتماعية في ذلك الوقت، اضطر للذهاب إلى السويس لتسلم العمل بالفعل، وأثناء إنهاء الإجراءات داخل المعهد، صادف زميلاً له سبق أن عمل معه في جامعة أسيوط قبل سفره إلى أمريكا، وكان حاصلاً على الدكتوراه في الفيزياء النووية من روسيا. وعندما علم بقصة الباز، حذره من أنه سوف يقع في الفخ، قائلاً له: «لو تسلمت العمل فسوف يحضروك بالبوليس إلى المعهد كما حدث معي»، وبدأ يحكي له مأساته وكيف أنه بعدما حصل على الدكتوراه في الفيزياء النووية أجروه على التدريس في المعهد مادة «الصوت والضوء»! ثم انهار الرجل من البكاء، حتى أن الباز شعر بأن صديقه أصيب بخلل عقلي نتيجة ما يعانيهي عمله وتحطم طموحه. وعلى الفور عاد الباز وتراجع عن إجراءات تسلم العمل، ثم توجه مباشرة إلى مكتب الوزير وقابل طلبة وأخبره بأزمة صديقه وطالبه بالتدخل لحلها، ثم غادر المكتب ولم يرجع إليه مرة ثانية، وبعدها بعامين سمع أن صديقه عالم الفيزياء النووية توفي نتيجة أزمة قلبية وهو لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره، وأصبح الباز عالماً تفتخر به البلد التي كادت أن تخنقه!