أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لفلاسفة العرب والمسلمين تقنين لعلاقة الوزن الشعري، والنظام الموسيقي بعضهما ببعضٍ كما في كتاب (المصوتات الوترية) للفيلسوف (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي)، وكتاب (الموسيقى الكبير) لـ(الفارابي)، وكتاب (جوامع علم الموسيقى) لـ(ابن سينا).
قال أبو عبدالرحمن: الفلاسفة الذين تناولوا نظرية الشعر فيهم موسيقيون مختصون كـ (الفارابي) إلا أن نظرتهم تاريخية؛ أي مقيدة بواقع الشعر العربي كما هو إلى عهدهم، وليست في رحاب ما يجب أن يكون عليه الشعر موسيقياً دون تقيد بما كان عليه تاريخياً.. كما أن نظرتهم إلى الشعر (وهي تاريخية محدودة): لا تبني على الألحان التي نشأت عنها أوزان الشعر؛ وإنما تنظر إلى الشعر في الأغلب وزناً مجرداً من اللحن؛ فأما النظرة الأولى فقد جسدها مذهب (ابن سينا) في كتابه الآنف الذكر عندما قرر أنه ليس من التناسب اقتران (فعولن بفاعلن) في بيت واحد، وعلل ذلك بأن هذا الاقتران ليس على الكيفية المطلوبة ؛ فهذا تعليل في إطار المألوف من عروض الشعر العربي وفق الألحان التي عرفها العرب فوجد بها وزن أشعارهم؛ وأما الألحان فإنها تقبل مختلف أنواع التعاقب؛ وليست العبرة بـ (فاعلن) أو (مفعولن)؛ وإنما العبرة بالبنى الوزنية كالمتحرك والساكن؛ لأنها تؤلف البنى النغمية؛ فتتألف آلاف الألحان.. وأما النظرة الثانية فقد ذكرها (أبو الوليد ابن رشد)، وقبلهم (الفارابي) في كتابيهما الآنفي الذكر، إذ رأيا أن المحاكاة في الشعر إنما هي في الوزن لافي اللحن؛ وهكذا ذهب (الفارابي)؛ إذ جعل الشعر العربي يقوم على الوزن، ولم يجعل اللحن جزأً منه.
قال أبو عبدالرحمن: و(الفارابي) و(ابن رشد) معذوران في هذه النظرة، لأن الشاعر العربي إلى عهد (الخليل بن أحمد) لا يعرف أوزاناً ولا عروضاً؛ وإنما يعرف ألحاناً غنائية عربية مأثورة محدودةً اقتضت أوزاناً عربية محدودة؛ وهذه الأوزان هي كل ما وصل إليه الاستقراء لحصر أوزان ألحان العرب التي جاء منها شعرهم، ثم انفصل الوزن عن اللحن؛ لأن وزن الشعر أصبح قياساً سمعياً وبصرياً لمأثور العربي الشعري.. والقياس السمعي يعني تطبع الأذن على بيت مجزإٍ إلى وحداتٍ إيقاعيةٍ هي التفعيلات؛ وكل تفعيلة مجزأة إلى أسباب وأوتاد وفواصل، وكل وحدةٍ من تلك الوحدات تأخذ ترتيبها الأول أو الثاني أو الثالث في كل بيت؛ وبترداد إنشاد قصيدةٍ ما، أو سماعٍ، أو قراأة عدة قصائد على وزنها: يرتسم في الذهن قياس البيت من ناحية الوزن وتعاقب الوحدات في نظامها؛ فيكتسب المتلقي ملكة الوزن؛ لأن الوزن هو الإناء للحن الذي هو جملة أنغامٍ؛ وهما ينفصلان.. ألا ترى أنك تسمع صداح موسيقى بلا كلمات، أو تسمع خرير ماء؛ فيحصل لك أنغام بلا كلمات؛ فتعرف وزنها اللفظي الذي يكون قالباً لها؛ وقل مثل ذلك عن الإيقاع في الرقص؛ فإنك تأخذ وزنه اللفظي فتجعله قالباً للحنٍ راقص.. وقد قرر (ابن سينا) أن الإيقاع الذي هو تقدير لزمان النقرات: يكون بنقراتٍ منغمةٍ دون إحداث حروفٍ؛ أي دون كلمة شاعرٍ يغنيها الموسيقار؛ فذلك الإيقاع لحن موسيقي؛ وقد يظهر الإيقاع مع النغمة الحروف المفهومة التي هي كلمات الشاعر؛ فيكون الإيقاع لحناً شعرياً. قال أبو عبدالرحمن: الأفضل أن نسميه لحناً غنائياً؛ وأضيف إلى ما ذكره (ابن سينا): (أن اللحن الموسيقي المجرد، واللحن الغنائي الشعري: ذوا وزنٍ واحدٍ يزن مثلاً نقرة وسكوناً بحركة وسكون؛ فيكون هذا وزناً شعرياً)؛ والفارق بين الوزن الشعري بدون لحن، واللحن الغنائي: أن اللحن لا يمكن أن يخرج عن وزنه؛ ولو خرج لكان لحناً آخر تقبله الأذن أو لا تقبله.. والفرق الثاني أن الوزن الشعري لا يشترط أن تكون كل الألفاظ التي تقولبت فيه: لحنيةً غنائيةً إلا بمحاكاةٍ في النطق لا في النغم اللحني الموسيقي كإظهار مدلول علامات التأثر من التعجب، والاستفهام.. إلخ نطقاً لا لحناً؛ فإذا حضر الوزن وغاب اللحن: كان الشعر متجرداً لقياسٍ مكانيٍ لكمية الأحرف، ومتجرداً لقياسٍ زمنيٍ لمدة النطق بالأحرف حسب اللغة المعتادة لا حسب الأنغام اللحنية؛ ومع غياب اللحن يقبل الوزن كلماتٍثريةٍ تفتقد عنصر التصوير أو الترقيص؛ كما تفتقد عنصر التجاوب اللحني الغنائي؛ فإذا جاء الموسيقار ليردها إلى لحنها، أو إلى لحنٍ آخر يبتدعه أو يأثره: فإنه يضطر إلى تغيير كلماتٍ نثريةٍ كثيرة بكلمات لحنية؛ وكبار الموسيقييين في العصور الحديثة غيروا كلماتٍ كثيرةٍ لفحول الشعراء.. وقد رأيت الموسيقار (محمد عبدالوهاب) شخصياً يستمع إلى قصائد سلمت له من شعر (محمد حسن عواد) رحمه الله تعالى، ولقد بينت ذلك في (أفاويق الأوفاويق) بمجلة اليمامة، وإلى لقاء في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.