تهاني فهد الخريجي
في ولاية Massachusetts, تلك الجامعة العريقة (هارفارد Harvard) التي يسبق تاريخ تأسيسها في أمريكا تاريخ وجود البيت الأبيض نفسه, جامعة مستقلة لا دينية، ترحب بكل لغة، وتفرد ذراعيها لاستقبال مريدي العلم، والعلم فقط. فهي وإن كانت لا تشق لنفسها مذهبًا بين الأديان المنتشرة في العالم، لكنها ترحب بأنشطة طلابها يمثلهم رجل دين مستقل، يدعمه أتباعه مادياً، دون أن تتدخل هارفارد بإدارة أي نشاط تابع لتلك المنظمات على صعيد 30 رجل دين لديانات مختلفة حول العالم ما عدا الإسلام!. كان هذا هو الحال حتى نهاية عام 2016، وكان المسلمون حتى هذا التاريخ يتدبرون شؤونهم عبر أنشطة طلابية ينظمها رجل متطوع بدوام جزئي بسيط لا يخوله للدخول تحت راية الثلاثين رجل دين في المنظمات الدينية المعترف بها في الجامعة.
وضمن النفع المساق تحت سياط الضرر, خلقت نظرة الرئيس الأمريكي ترامب إبان فوزه بالانتخابات جواً من (الإسلام فوبيا) داخل أزقة الجامعة, وهو الصدى الذي شاع أثره في كل مكان وقتها وليس هارفارد وحدها؛ مما اضطر رئيس هارفارد حينها البروفيسور Drew Gilpin Faust أن تبحث - ولأول مرة في تاريخ هارفارد- عن رجل دين مسلم يمثل تلك الجالية من طلابها ليسود الأمان والاستقرار بين صفوفهم. فكانت الترشيحات الدقيقة والبحث العميق والإجراءات المعقدة لفوز الشيخ خليل عبد الرشيد بمنصب أول رجل دين يمثل الإسلام بدوام كامل وبعمل ثابت غير تطوعي في إمامة المسلمين داخل حرم هارفارد, في مرتبة فخرية لا تفصله عن رئيس الجامعة سوى رجل واحد فقط.
قادني الفضول لمعرفة هذا الشيخ الوقور في ذلك الموقع الحساس داخل هارفارد للحضور في إحدى المناسبات الدينية التي يستغلها الشيخ خليل للحديث عن الإسلام جاذباً المسلمين وغير المسلمين ومثيراً فضول غير المسلمين بإقبال شبابنا الكبير لتلك الأنشطة, مقارنة بقلة انتماء فئة الشباب من الديانات الأخرى لطقوسهم. وعند حضوري للقاء الشيخ خليل علمت كيف أن الله تعالى ينصر بدينه من يحب, ويستعمل في طاعته من يشاء, فشيخنا يعتبر الجيل الثاني في أسرته اعتناقاً للإسلام, فقد أسلم والده ليصبح أول أمريكي مسلم يعمل كعمدة في إيستون ماونتن في ولاية أتلانتا, وكان عمر شيخنا في ذلك التحول الديني العظيم ستة أشهر, فاعتنقت الأسرة الإسلام بكل ما يشمله من تغيير في الإيمان وتمثيل الهوية الإسلامية وتبديل المعتقدات. ومن أكثر الوقفات بساطة وعمقاً في آن واحد أنه كغيره ممن يعتنق الإسلام اختار اسماً عربياً يدل على هويته الجديدة!
اختار الشيخ خليل اسمًا عربياً على الرغم من اعتزازه بأصوله الأمريكية, لكنها لم تمنع افتخاره بهويته الإسلامية, في زمن يتنصل فيه أرباب العروبة من الأسماء العربية وتفضيل أسماء يصعب حتى تهجئتها ومعرفة أصول معانيها, وكأن بحر لغتنا قد نفد من كنوز الحرف وضروب المعاني في الأسماء, ذلك الانسلاخ المقيت بات سمة غريبة في أبناء هذا الجيل, متجاهلين أن الأسماء أشد التصاقاً بهوية الفرد منها بذائقته الغربية أو حريته الشخصية. كانت تلك المعاني العميقة من خلف حقيقة التسمية, تقفز إلى ذهني في كل مرة كنت أسأل مسلماً عن اسمه في الصين أثناء وجودي فيها, وفي كل مرة أجد اسماً عربياً تحت تلك الهوية الإسلامية لمسلمي الصين لمن لم يزر بلداً عربياً في حياته قط ولا يعرف من العربية غير اسمه, لكنها هويته الراسخة التي جعلته يختار اسماً عربياً مغايراً لاسم سونق أو شونج.
ليس من السهولة أن تعيش بهويتك الإسلامية داخل مجتمع يرفض هويتك الجديدة وانتماءك لأصولك في الوقت نفسه, وهذا ما يحاول الشيخ خليل أن يعززه في نفوس المسلمين من أصول غير عربية, ومن خلال تخصصه في الدكتوراة حول تاريخ الإسلام في أمريكا. تعجبت من إدراكه لأهمية مفهوم الهوية الوطنية والاعتزاز الديني في بلد الحريات المفتوحة, وفي زمن ينادي باللادينية خوفًا من الدخول في دوائر التصنيف, أو التهرب من الوطنية في محاولة الذوبان في قالب الآخر لاهثاً خلف الإعجاب والتوقير. وهو مفهوم عميق تسنى لي حضور ملتقى خاص حوله في إحدى أنشطة جامعة بوسطن لبعض الجاليات المتفرقة التي تعاني الازدواجية في الانتماء لهوية محددة, ووجدت الحل في اللاهوية والانتماء إلى كل مكان واعتناق كل فضيلة باعتبارها ديانة والتخلي عن كل خطيئة كمذهب! دون اعتناق دين محدد أو الانتماء لأي أصول لا يملكون معها أي صلة سوى اسم يصعب عليهم نطقه. مفهوم خطير يحمل ظاهرة التعطش للسلام العالمي والتصافح الفكري ظاهرياً, لكنه يقتل أماناً داخلياً, وينشئ معه عقولاً فارغة تمتلئ بأي غوغاء, ولا تقبل سوى ما يوافق هواها فقط.
في لقائي مع الأستاذة الفاضلة سامية عمر زوجة الشيخ خليل, والتي تقدم إشرافها التطوعي والمهم لاسيما في التوعية والإرشاد لجميع الأخوات المسلمات, وحديثات الإسلام على وجه الخصوص؛ تتبعت معها رحلته العلمية التي امتدت عشرين عاماً في دراسة العلم الشرعي على مذهب أهل السنة والجماعة, وتعلم اللغة العربية على يد أئمة كبار في المشرق العربي وتركيا واليمن وسوريا. وحصوله على شهادتين في الماجستير حول القانون الإسلامي والشريعة من جامعة كولومبيا في نيويورك, والدكتوراة من جامعة SMU في دالاس, وترقيته للتدريس في الجامعة الأخيرة لحصوله على إجازة متصلة لسند النبي صلى الله عليه وسلم موثقة من مركز الإيثار الإسلامي في تركيا. كل تلك الخبرة الممتدة خلقت من الشيخ خليل إمامًا يعلم فقه الصلاة والوضوء داخل هارفارد, ويعطي دروساً في الجنازة وغسل الميت داخل أعرق جامعات العالم, يجهز موائد الإفطار في رمضان ويقيم حلقات العلم كل جمعة. منحته مساحة حرة ليعرض فيلمًا عن الحرم من الداخل فيراه مفكرو هارفارد ومجموعة من أكثر الفئات ثقافة وعلماً داخل ذلك الحرم الجامعي. الشيخ خليل يتحدث بروح المسلم المتعايش مع جميع الديانات دون المساس بهويته الدينية أو المخاطرة بمذهبه السني أو حتى التنصل من أصوله الأمريكية. نظرة واسعة قد نفتقد شموليتها في مجتمعاتنا العربية, وهوية قوية يصعب إمساك العصا فيها بشدة من المنتصف داخل ثقافاتنا الإقليمية.
كل تلك السمات خلقت جوًا عظيمًا من الثقة للشيخ خليل جعلت هارفارد - لأول مرة في تاريخها - تشرف على رحلة للعمرة, في تخطٍ لحواجز وقوانين مستحدثة على مستوى كل جامعات أمريكا وسياسة الجامعة السابقة نفسها, لتخرج تحت إشرافها رحلة لـ32 طالبًا مسلمًا مع الشيخ خليل يحاول من خلالها أن ينتشلهم من العالم المادي ليفتح لهم آفاقاً من الروحانية في رحلة إيمانية عظيمة لمكة المكرمة لأول مرة. ومع مساندة وتطوع مادي منقطع النظير من جملة من الأخوة ورجال الأعمال, ومجموعة من خريجي هارفارد نفسها ممن تمنى أن لو تسنت له تلك الفرصة قبل تخرجه فقدم ما استطاع لإخوته الطلاب من أجل الحصول على تلك الفرصة الفريدة, اكتملت تجهيزات تلك الرحلة التي موعدها في مطلع يناير 2019, ويتبعها تغطية وتأملات لأحداثها بعد العودة في حفل مهيب يتشارك فيه المسلمون مع حضور مشرف من غير المسلمين ضمن أنشطة هارفارد. تأملت كل تلك السنوات التي ظل الشيخ خليل وزوجته سامية يقدمان فيها ما يملكان في خدمة الإسلام من مؤتمرات إسلامية ولقاءات وبرامج ورحلات وأنشطة وحلقات علم حتى يومنا هذا في جميع الجامعات الثلاث, داخل جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة SMU في دالاس, وأخيراً باختيار الله تعالى للشيخ خليل ليمثل المسلمين في جامعة هارفارد, تلك التي رحبت إدارتها بفكرة وجود مركز إسلامي خاص في داخل أروقتها, وأنه من الممكن بناؤه شريطة أن يجد شيخنا من يتولى مادياً ذلك الشرف الرباني العظيم لبناء المركز الإسلامي في كبد هارفارد.
فهل سيقوده بحثه إلى من يعتلي ذلك التاج رأسه يا ترى؟!
أحداث كثيرة صداها عميق في قلبي عشتها زمن إقامتي على بعد دقائق معدودة من جامعة هارفارد, حملتني للشعور بامتنان كبير لبرنامج التطوير المهني النوعي لمنسوبي التعليم من المملكة العربية السعودية في خبرات أمريكا, لأعيش تلك التجربة مع شيخنا خليل كأحد أعظم الإضاءات الفكرية التي خلقها البرنامج في عقولنا ونفوسنا وتفكيرنا, وجعلتني أفخر بهويتي الإسلامية وأشد يدي على قلب انتمائي لوطني وحبي لعروبتي.