د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يستعيد من مرحلة الصِّبا المبكرة أنه كان يكتب رسائل جدته لابنتها المقيمة في «جدة» -رحمهما الله- ولا يعنيه هنا محتواها؛ فلم تتعدَّ السلام والسؤال عن الحال، لكنه وعى العنوان المتكرر الذي كان يضعه على مغلف الرسالة: (الرويس - شارع السيد - دكان الحلاق طالب)؛ فقد استوقفه مكانُ خالته وعنوانُها، ولا يدري اليوم ما صنعت بهما عوامل التعرية التي لم تُبقِ ما نتذكرُه أو نُذكر به.
** مرَّ به هذا الهاجس وهو يشاهد الفيلم الأميركي «كارولَينا: مكاني الجميل» 2017م، وفيه المنزلُ القديم الذي ورثته الأم العازبة من عمتها، وانتقالُها إليه من «لوس أنجلِس»؛ لتجد البيت العتيق كما غادرته منذ عقود حين كانت تمضي إجازاتها فيه، والوصية المؤكدة بتحويل البيت إلى من يستفيد منه إن لم ترغب في سكناه.
** ساقه الهاجس إلى هواجس؛ فأين مكان صاحبكم؟ وما هو عنوانه؟ هل بيت الأسرة الذي سبق ولادتَه في «الخريزة» أم بيت جدته الذي وُلد فيه قرب مزرعة «المعيذرية» أم بيت «سوق مصعد» أم «سوق القصر» أم «الجوز» أم «القرعاوية» أم «الهدا» أم «الخندق»، وهذا في عنيزة؛ فماذا عن الرياض: أبيت «سويدي الخزان» أم «حلة العبيد» أم «حلة ابن نصار» أم «الجرَّادية» أم «الملز» أم «العليا» أم «القدس»؟ ولدى الجميع أمثلتُهم، واستعاد كلماتٍ همس بها طفلٌ في عقده الأول - وقد استمع إلى حوارات الكبار حول تغيير الناس بيوتَهم -: «لا تتركوا هذا البيت؛ ففيه ذكرياتنا».
** الطفل يفي لذاكرته، ويستمتع بذكرياته، لكننا - الكبار - لا ندري أي ذاكرة ظلّت، وأي ذكريات نُخلص لها؟ وما الذي بقي من عناويننا؟ ويقارن تبدلات العناوين هنا بعنوانيه اللذَين لم يتغيرا في الولايات المتحدة بالرغم من مغادرتهما منذ أمد؛ فالعنوان رمز معنوي قبل كونه حسيًّا؛ فهل نحافظ على الهُوية المكانية؛ كي يبقى للأجيال ما يتذكرون به أهلَهم وناسَهم.
**حكى المؤرخون عن بكاء من شهد من أبناء صحابة الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هدمَ «الحُجرات» لتوسعة المسجد النبوي، وفيهم: سهلُ بن حنيف وأبو سلمة وخارجةُ بن زيد، ورووا قولَ أبي أمامة: «ليتها تُركت فلم تهدم حتى يقصرَ الناسُ عن البناء ويروا ما رضيه اللهُ لنبيِّه وخزائنُ الدنيا بيده».
** المكان هُويةٌ تاهت بين هُوياتٍ مفقودة، ولصاحبكم نصٌ يستعيدُ منه:
لا تكتبِ اليومَ عنواني فلن تصلا
ولا تلمْ قلمي إن أدمن المللا
سارت بي الريحُ حتى غبتُ ملتحفًا
ماءَ الغيوم أنادي السهلَ والجبلا
وأرتجي لغةً تطوي مفاتنَها
كيما أقول الذي أرجوه مبتهلا
أطرقْ بعينيك وارسمْ ظلَّ دائرةٍ
تهوى النجومَ وترقى فوقها زُحلا
** العنوانُ هُويةٌ ضائعة.