عبدالعزيز السماري
كنت دومًا أتأمل أولئك الذين يهربون من المدينة إلى البرية، أو إلى مناطق بعيدة عن العراك المبرمج في الحياة اليومية، فتجدهم أكثر سعادة وانطلاقاً في الحياة، بالرغم من افتقادهم إلى الثروة والجاه، وهي حالة أشبه بذلك الذي نجح في فك قيده، ثم خرج من زنزاته إلى حيث الحرية والانطلاق، وتعني تلك القناعة التي مفادها أن السعادة تبدأ عندما تتوقف عن الركض في الزحام مع الآخرين..
عند الإنسان العامي البسيط لا يمكن أن يكون ذلك أمراً مخططاً له، ولكنه يأتي في عفوية تامة، فالاستسلام لعفوية الحياة خارج النظام والمنهج جلبته ظروف وصعوبات، فكان لا بد من اختيار الخروج والتسكع على هامش الحياة بعيداً عن التوتر والقلق، لكن الصعوبة تكون عند أولئك الذين توهموا أنهم أصحاب رسالة ومبادئ وواجبات في هذه الحياة، ولهذا تجده يعيش في قلق مستمر بحثاً عن الأمن والسعادة، وينتهي به الأمر في شقاء مزمن.
لم يتجاوز الشاعر العبقري المتنبي تلك الزاوية في الحياة، حين قال: «ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقلهِ وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ، فقد أصحاب كبد الحكمة، لأن العقل هنا لا يعني العبقرية، ولكن هو ذلك التراكم المسبق لأفكار مسبقة تحد من حرية المرء وسعادته، ومن هنا قد نفهم معنى من معاني التنوير، فأولئك المتشنجون في الحياة لا يمثلون الوجه المشرق في الحياة، لأن التنوير لا يأتي من الإفصاحات الخارجية أو الوعظ أو الحكمة، بل من تخليص أنفسنا من الأفكار المسبقة السابقة التي تحد من أفعالنا.
لهذا السبب يبدو الأطفال أكثر سعادة من البالغين منا، فالصوت الداخلي في رؤوسهم الذي يردد «لا يجب أن أقوم بذلك الآن» لم يصل بعد إلى مرحلة التسلط على حريتهم، فهم أحرار من التصورات المسبقة السلبية، ولهذا على البالغين أن يسعوا إلى تخليص أنفسهم من هذه الأفكار المقيدة لاستعادة السعادة، ولكن السؤال إذا كنت سأقوم بإطلاق جميع قوى عقلي، وتخليص نفسي من الأفكار المسبقة، هل سأعتبر غير مقبول اجتماعيًّا من قبل الآخرين؟ هل حقًّا أريد الشجاعة لأقول ما يدور في ذهني، وأفعل ما أشعر به؟
الإجابة عن هذه الأسئلة قد يكون فيها الجواب الشافي لماذا لم يجد البعض بعد السلام الحقيقي والسعادة والحرية على الرغم من تحقيقهم للثروة والجاه، فالناس يعظهم بعضهم أن يكونوا على أنفسهم وبساطتهم، وأن لا تقلق بشأن ما يعتقده الآخرون، لكنها مجرد مقولة هم لا يؤمنون بها، ولكن يرددونها من باب الحكمة غير القابلة للتطبيق، ومن باب التنفيس إن صح التعبير بعد أن وصولوا إلى مرحلة متقدمة في زنزانة الحياة، ولم يعد من الممكن أن نتجاوز أبوابها وقيودها وحراسها..
لكن عندما أتوقف وأراقب أولئك الذي نفذوا بجلدهم واختاروا المرحلة التي تناسبهم، أجد أنها أمر ممكن، لكن تحتاج إلى قوة ذاتية لانعتاق أبدي من قيود الواجب والمجتمع والحكمة والعقل،.. في نهاية الأمر يبدو أن الصحة والسعادة هي مسألة اختيار، ويمكن أن يحدث على الفور لحظة أن أقرر أن أكون نفسي بالكامل، وأن أفعل ما أشعر به، لكنها لا يمكن أن تأتي من باب آخر غير باب الحرية، فأول خطوات السعادة أن تتخلص من تلك المخاوف والكوابيس التي غدت أقرب الأشياء إليك..