د. محمد عبدالله العوين
هاتفني صديقي المغترب في أمريكا وقد انقضى من الليل نصفه الأول بصوت بعيد منطفئ غائر يسحبه من أعماقه سحبًا وهو يخفي تنهيدة مكدودة أبت إلا أن تبوح بما يكتمه.
قال: أنا متعب يا صديقي!
متعب أنا من الغربة الطويلة التي تكاد تذيب جسدي النحيل بعد أن كادت تذيب قلبي الحزين، متعب أنا من البعد، ومتعب أنا من الصمت، ومتعب أنا من عالم أعيش وسطه لا يعرف إلا لغة العمل والالتزامات والحضور على الموعد والانصراف بعد الساعات الطويلة التي تشبه الغيبوبة بين المقاعد والمعامل والمكتبة والبرزنتيشن وجلسات النقاش المملة التي لا تكاد تنتهي.
متعب أنا وغريب، كأنني حرف تائه وضع خطأ بين حروف لغات العالم!
أجيد الحديث بلغتهم كأحدهم؛ ولكنني أصاب بالإعياء كي أصل إلى وجدان أحدهم، نثرت روحي وغنيت أشواقي وأنشدت تراتيلي وعزفت على رجع صدى ذكرياتي بينهم علي أجد من يسعفني برتق جراح الغربة الحارقة، أو لعلي أجد غريبا مثلي يواسيني وأواسيه يعللني وأعلله يغنيني وأغنيه، وكل غريب للغريب نسيب؛ لكنني وجدت الغرباء تائهين كما أنا تائه يبحثون عمن يحتويهم دون أن يجدوا ضالتهم.
كل ما حولي ضاج بالحياة، حياة مرسومة خارطتها بقلم الرصاص، وغير بعيد عن منزلي مرقص وحانة ومراتع لهو، ولو كان اللهو يمكن أن يبرئ أوجاع النفس العليلة للهوت، ولو كان العبث والصخب وجنون العقل وغياب الرشد يمكن أن يطفئ لهيب الأشواق ويميت مكامن الإحساس ويسكت نبضات الحنين المشتعلة لعبثت وصخبت وجننت حتى يشكو مني عقلي الذي لم تصبه لوثة جنون أو مجون قط. يا صديقي البعيد الذي يكاد صوتي المخنوق ببعد وقسوة وجفاف الغربة لا يصل إليه: كيف الديار بعدي؟ كيف هم الأهل والأصدقاء والأحباب؟ كيف هو حينا النابض بالمحبة والتواصل ولقاءات الجمعة وعشيات الليالي المقمرة في البراري الجميلة حين تعتدل الأجواء ويطيب الهواء؟ كيف هم الناس عندكم؟! ألا زالوا كما عهدتهم متحابين متواصلين محيين باشين مسلمين على من عرفوا ومن لم يعرفوا؟ كيف هو شارعنا الطويل الممتد بفيلاته المتراصة وسيارات الجيران المصفوفة على الجانبين حتى لا يمكن أن تجد سيارة غريبة لها موقفا؟ اشتقت لصوت أذان الفجر، الله ما أجمل صوت مؤذن مسجدنا حين ينساب عذبا نقيا مع بدايات انبلاج الخيط الأول للفجر يأتي كبلسم، ينتشر في الفضاء رجاءً ودعاءً ونداءً لتدفق الأمل واستمرار العطاء.
يا صديقي العزيز: لي في الغربة سنين، ذهبت شابا في ميعة المراهقة وكنت أزعم لنفسي حين وثقت جسدي النحيل بالحزام على مقعدي في الطائرة المتجهة إلى كالفورنيا أني ملكت الحرية، وأطلقت ساقي للريح ومزقت وصاية أبي وصرامة أمي ورقابة الأسرة والأقرباء والجيران! ولكن على عكس ذلك تمامًا؛ لقد نزعت من عنقي وصايتهم وطوقتها بوصايتي الصارمة على نفسي.
يا صديقي اشتقت إليكم يا أهلي، أنتم وطني الذي لا مثيل له.