د. عيد بن مسعود الجهني
يبقى الذهب الأسود محركا أساسيا لتوجهات سوق النفط في بورصاتها الدولية، مستمدا قوته من الأوبك وأعضائها خصوصا دول الخليج العربي، فهذه الدول بقيادة المملكة التي تعتبر بوصلة الأوبك هي مفتاح توجيه دفة سفينة الإنتاج والأسعار، وهما المعادلتان الأهم بالنسبة للأوبك، ففي أحيان كثيرة نقوم بخفض الإنتاج لإعادة التوازن للسوق كما فعلت في حقبة الثمانينيات ضمن آلية مدروسة، هذا يؤكد أن الأوبك تنهض لتناضل من أجل حماية مصالحها مكشرة عن أنيابها للدفاع عن الأسعار وكمية الإنتاج.
ولم تدخل السياسة إلى أروقة المنظمة منذ تأسيسها حتى أكتوبر 1973، فقد سيطر الهدف الاقتصادي الذي حدده دستورها على مسيرتها إلا أن الرياح لم تجرِ كما ترغب السفن.. فتغير سيناريو النفط من نفط اقتصادي إلى نفط سياسي يؤثر في الصراعات الدولية .. وكان هذا من حسن حظ المنظمة.
وهكذا أدرك العالم أن النفط هو المحرك الرئيسي للاقتصاد الدولي واقتصاد الدول الصناعية بوجه خاص، وتحول النفط الرخيص قبل 1973م الذي تعودت محطات شحن الوقود في بعض الدول الصناعية منح خصومات عليه لدفع عجلة بيعه لسنوات طويلة بسبب حجم الفائض إلى بترول غالي الثمن شحيح لا بد من المحافظة عليه.
ومن يتابع أسعار النفط يجد أنها بقيت تتجاذبها الانخفاضات الحادة والارتفاعات النسبية منذ غروب شمس قرن النفط الماضي، وقد تمسكت الأوبك بآلياتها التي اعتمدتها (22 - 28) دولارا للبرميل وعضت عليها بالنواجذ، وكان ذلك طوق نجاة للأوبك في تلك الحقبة من تاريخ النفط.
لكن غزو أمريكا وبريطانيا والتحالف الذي انضم إليهما لبلاد الرافدين كان الشعلة التي أضاءت الطريق لارتفاع أسعار النفط، ومما أكد أسباب ارتفاع الأسعار أن الأوبك في اجتماعها الوزاري بالجزائر في شهر فبراير 2004 قررت خفض إنتاجها لأعضائها العشرة آنذاك الذين كانوا ملتزمين بنظام الحصص ما عدا العراق إلى (23.5) مليون ب / ي، بعد أن كان حوالي (24.5) مليون ب / ي، على الرغم من أن المنظمة لم تكن وقتها تهدف إلى رفع الأسعار بقدر ما كانت تهدف إلى استقرار سوق النفط الدولية.
ومنذ تلك الحرب التي خرج من رحمها احتلال العراق وتسليمه على طبق من ذهب لإيران ليس هناك من حديث يعلو على حديث النفط وأسعاره التي جاوزت السبعين دولاراً للمرة الأولى في تاريخها عام 2005م.
ومع بزوغ شمس عام 2008 عندما غامر ريتشارد أرينز، الذي يملك مؤسسة للسمسرة في بورصة نيويورك؛ ليشتري ألف برميل من النفط بسعر أعلى من 147 دولاراً؛ ليحقق خسارة طفيفة، فإن ذلك لا يمثل في حد ذاته المؤشر الرئيس لارتفاع سعر النفط بقدر ما يعكس لنا أن أسعار النفط التي تهب عليها عوامل مؤثرة من كل حدب وصوب قابلة للاشتعال في أي لحظة.
لكن بعد عاصفة الكساد الاقتصادي العالمي 2008 عندما هبطت أسعار النفط لتبلغ 33 دولاراً للبرميل، قبل أن تعود للتعافي شهراً بعد آخر لتكسر حاجز الـ 100 دولار للبرميل، بعد أن خفضت الأوبك إنتاجها (4.2) مليون ب / ي، وفي عام 2014 ونتيجة لذلك التخفيض راوحت الأسعار ما بين 80 و90 دولارا للبرميل مع بقاء الاستهلاك من النفط على حاله تقريبا، وتلك الأسعار دعمها حالة عدم اليقين آنذاك، حيث كان العالم يعيش متغيرات عديدة.
ليس هذا فحسب فالأوبك أخذت على عاتقها عقد اجتماعات متتالية عام 2016 منها اجتماع الجزائر وآخر في قطر وفيينا لتعلن أنها خفضت إنتاجها (1.2) مليون ب / ي، والدول خارج الأوبك ومنها روسيا والمكسيك والنرويج ومصر والسودان وعمان حوالي (600) ألف ب / ي.
ومن يقرأ اجتماع الأوبك الوزاري في فيينا رقم 173 تاريخ 30 نوفمبر 2017 والذي جاء متزامنا معه اجتماع أعضاء الأوبك المشترك مع الدول خارج المنظمة، ليبلغ عدد المنضوين تحت مظلة هدف استقرار سوق البترول الدولية (24) دولة منتجة للنفط، ليصبح هدفهم واحد تحديد سقف الإنتاج والالتزام به لتتعافى الأسعار لتبلغ مستوى يحقق العدالة في السعر للمنتجين والمستهلكين.
ولا يخرج اجتماع الدول المصدرة للنفط (أوبك) الذي انعقد في السادس من هذا الشهر في مقر المنظمة في العاصمة النمساوية (فيينا) عن أهداف اجتماعاتها السابقة، ففي هذا الاجتماع الأخير، توصلت الأوبك إلى اتفاق لخفض الإنتاج بواقع 1.2 مليون ب / ي، يدخل في هذا حلفائها المتعاونين معها بعد أن بلغ إنتاج الأوبك في أكتوبر الماضي حوالي 33 مليون ب / ي.
هذا الاجتماع الهام للأوبك وحلفائها وفي مقدمتهم روسيا الذي عرف بـ (إعلان التعاون) جاء في الوقت المناسب بعد أن خسرت الأسعار حوالي 30 في المئة لتبلغ ما بين 60 و63 دولارا بعد أن بلغت (86) دولارا للبرميل، ولذا وجدنا أن الأوبك شمرت عن سواعدها ونادت حلفاءها للوقوف صفا واحدا لجلب الاستقرار لسوق النفط الدولية وضمان سعر عادل لنفوطها.
وأمام هذا التدني للأسعار يصبح تعاون المنتجين من الأوبك وخارجها ضرورة وليس ترفا لمجاراة ظروف السوق، وبذا فإن خفض الإنتاج في رأينا في هذا التوقيت أصبح مطلبا هاما خاصة بعد أن تمسكت الأوبك وحلفائها بالتخفيض السابق حتى نهاية هذا العام، ليصبح التخفيض الجديد مع بداية بزوغ شمس العام الجديد.
ولأن الأوبك خاصة وحلفاءها عامة هدفهم خلق سوق نفطية مستقرة تحقق مصالح المنتجين والمستهلكين والحد من التقلبات السعرية لنفوطهم التي تعتمد بعض ميزانيات دولهم على نسبة كبيرة من إيرادات النفط لتبلغ في بعضها ما بين 85 و95 في المئة، ولذلك فإن هذه الدول صاحبة النفط يهمها كذلك الحد من تقلبات العرض والطلب وتداعيات العوامل الجيوسياسية أيضاً.
هذا التدني في الأسعار جاء على الرغم من أن تطبيق العقوبات على إيران بدأ بالفعل وامتد أثره إلى تصدير نفط ذلك البلد، ناهيك عن أن الإنتاج الليبي هبط دون مليون ب / ي بسبب إغلاق الموانئ ونقص قدرات التخزين وما تشهده البلاد من جيوسياسية غير مستقرة، إضافة إلى أن فنزويلا صاحبة التاريخ النفطي العريق تشهد هي الأخرى اضطرابات سياسية خرج من رحمها تأثيرا سلبيا على إنتاج ذلك البلد ليأخذ مساره في التدني.
رغم كل تلك الأسباب الرئيسية إلا أن أسعار النفط أخذت طريقها إلى التدني النسبي، وهذا يؤكد أن هذه السلعة السحرية التي تتنافس كل من المملكة وروسيا والولايات المتحدة على صدارة إنتاجها في السنوات القليلة الماضية، بل إن أمريكا أصبحت بالفعل مصدرا صافيا للنفط، وسيرتفع إنتاجها في العام القادم ليكسر حاجز (12) مليون ب / ي تحكمها عوامل عدة لصعود أو هبوط السعر، سواء منها الجيوسياسية أو المضاربات، المخزون الاستراتيجي والعرض والطلب وبعض المعلومات الصحيحة والمغلوطة وبرودة الطقس.. الخ.
وعلى الرغم من أن الاستهلاك العالمي يحوم بين 99 و100 مليون ب / ي وهو قريب من توقعات الأوبك السابقة وان نصيب الأوبك منه حوالي (33) مليون ب / ي، ولان الأوبك وحلفاءها قد خفضوا إنتاجهم بحدود (1.2) مليون ب / ي، فإننا نعتقد أن الأسعار قد تأخذ لنفسها مسيرة مستمرة نسبيا في الارتفاع إذا تمسك الجميع من داخل وخارج الأوبك بالسقف الذي اتفقوا عليه فهذا هو مربط الفرس كما يقولون، فعلى الجميع العض على ذلك بالنواجذ خاصة أن دولة مثل أمريكا كما نوهنا تعيش مرحلة من الازدهار النفطي بعد عقود عديدة من تدني إنتاجها لتصبح مستوردا صافيا للنفط واليوم تتساوى في الإنتاج مع المملكة وروسيا، وفي العام القادم سيقفز إنتاجها إلى أكثر من (12) مليون ب / ي، لكنها على الجانب الآخر ليست ضمن نادي النفط الجديد الذي تحت مظلته الأوبك التي خرجت من عقدها (قطر) وأعضاء الحلف وفي مقدمتهم روسيا.
وبذا يبقى طوق النجاة تعاون الأوبك والمستقلين لتحقيق هدف دعم سوق النفط الدولية واستقرارها.. هذا لأن الشراكة مع الأوبك تحقق مصالح المنتجين بتحقيق سعر عادل ولا يتجاهل مصالح المستهلكين، وبذا تبحر سفينة الأوبك والمتعاونين معها إلى بر الأمان.
والله ولي التوفيق.